الاستحواذ على كريدي سويس لم يلجم أزمة المصارف

السياسي -وكالات

لم يمر يوم منذ بداية الأسبوع الماضي، لم يضع فيه المستثمرون في الأسواق أياديهم على قلوبهم، في انتظار صعقات كهربائية مؤلمة من البورصات وأسواق الأسهم.

واليوم الإثنين، ورغم تقشع بعض الغيوم التي كانت تهيمن على سماء أوروبا، بعد استقرار البورصات الأوروبية الكبرى، وإفلاتها من براثن الخسائر الجديدة، إلا أن البنوك خاصةً لا تزال تتصبب عرقاً بعد أزمة كريدي سويس التي أعقبت انهيار بنك سيليكون فالي الأمريكي.

الشك مستمر
ورغم الإعلانات والتصريحات الرسمية، ورغم مسارعة السلطات المالية الأوروبية لضخ السيولة بغزارة في الجهاز المصرفي الأوروبي، وموافقة سويسرا بسرعة قياسية على استحواذ العملاق يو بي إس، على العملاق الأصغر كريدي سويس، في صفقة بلغت 3 مليارات دولار، لم تنجح في تهدئة الأسواق المالية العالمية، التي تنظر بعين الشك إلى هذه الصفقة بسبب تواضعها، ما أثار مخاوف من محاولات للالتفاف على الوضع المالي المتردي للبنك المتعثر، بأكبر من المعلن، ومن توقعات الخبراء، ما دفع أسهم يو بي إس نفسه إلى التراجع بسبب الصفقة بدل ارتفاعها ، إذ أعلنت وكالات الأنباء صباح اليوم الإثنين خسارة السهم 8.7% من قيمته بسبب الاستحواذ على كريدي سويس الذي انزلق بشكل خطير جداً بعد خسارته 64% من قيمته فور انطلاق التداول.
وسرعان ما امتدت الخسائر في بداية التعامل إلى البنوك الكبرى الأخرى خاصةً في  فرنسا حيث خسر مصرفَا بي إن بي باريبا، وسوسيتي جنرال العملاقين، حوالى 7 %، وفي ألمانيا حيث تكبد ودويتشه بنك الألماني أكثر من 9 %، وفي بريطانيا التي خسر فيها ستاندارد تشارترد نحو 5 %.
ورغم عودة البورصات الكبرى لاحقاً إلى الهدوء، إلا أنها لم تعاود الصعود، ولم تنجح في احتواء تداعيات كريدي سويس، خاصةً بعد تبخر 17 مليار دولار تقريباً من السندات والأوراق المالية المختلفة التي كان يُديرها البنك لفائدة طائفة واسعة من المستثمرين حول العالم، ضمن ما يُعرف بالسندات الثانوية، التي لا يشملها تأمين هيئة التأمين المالي الفيدرالي السويسرية ضد مخاطر الانهيار المصرفي.
وتسبب كشف الأمر في هلع المستثمرين ربما يُفسر تدهور سعر سهم يو بي إس، حتى بعد الاستحواذ على كريدي سويس، ذلك أن مخاوف المستثمرين الآن، لم تعد تتمحور حول انهيار البنك، بقدر ما تتمحور حول انكشاف البنوك الأخرى وشركات التأمين، على السندات المملوكة لكريدي سويس، ما يعني تأثرها المحتمل بدورها بالأزمة، واحتمال تبخر عشرات المليارات الأخرى، ما سيهدد النظام المصرفي العالمي بأسره.

مفارقة

وفي هذا السياق أكد المحلل المالي لدى فانتوبال، أندرياس فينديتي، أن يو بي إس، رغم كل شيء نجح نسبياً في منع “انهيار كريدي سويس، ومعه الساحة المالية السويسرية، ومن ورائه يو بي إس” حتى الآن على الأقل، ولكن الاستحواذ على كريدي سويس، لم “يلغ المخاوف، كلها، وستكون هناك الكثير من المخاوف والشكوك” في مستقبل النظام المصرفي السويسري والأوروبي، ما يعني تأثر يو بي إس نفسه بالاستحواذ، بعد تغير نظرة المستثمرين إليه.
ويُشكل الاستحواذ لبنك يو بي إس على كريدي سويس، مفارقة مالية حقيقية، فهو من جهة سيرفع حجم رسملة البنك إلى أكثر من 5 بليونات دولار من الأصول المستثمرة، ولكنه في الوقت ذاته، يرفع حجم وخطر الأضرار التي يمكنه أن يُخلفها إذا لم تتطور الأمور نحو الهدوء، واضطر البنك العملاق الجديد، إلى المرور بمطبات جوية شديدة، ما سيشكل  خطراً مدمراً للنظام البنكي الأوروبي بأسره.
ورغم تطمينات المؤسسات المالية السويسرية والأوروبية، لم تتورع الصحف السويسرية اليوم الإثنين، عن إطلاق حملة شعواء ضد مصارفها الوطنية، فكانت أبرز عناوينها “صفقة مخجلة”، و”فضيحة تاريخية”، و”يوم كارثي” في إطار مواكبتها للصفقة وتبعاتها، مع الشك في نجاحها في تهدئة العاصفة، وطمأنة المستثمرين خاصةً في آسيا، الذين يعدون أهم وأبرز المتعاملين مع مصارف سويسرا، وهو ما يعكسه التراجع الحاد للبورصات الآسيوية اليوم الإثنين، من طوكيو، إلى هونغ كونغ، ومن شنغهاي إلى سيول انتهاءً ببورصة ملبورن الأسترالية.
والواقع، أن المخاوف من مفاجآت كريدي سويس، ليست بسبب عملياته المالية وحدها، أو الانكشاف المحتمل من بنوك أخرى ومؤسسات مالية أو شركات تأمين عليه فقط، بل سببها أيضاً الخوف من تفجر فضائح مدوية، عن البنك وعملياته المالية، في ظل تاريخه الطويل والحافل بالتجاوزات والسقطات منذ تأسيسه في 1856، كان آخرها في 2014.

تاريخ حافل

ويكشف موقع الإذاعة والتلفزيون السويسري، في مقال أمس الأحد، تاريخاً حافلاً للبنك العريق، منذ تأسيسه، فمن الشبهات التي رافقت استحواذه على أحد أكبر المنافسين في 1900، أوبرهاينسك بنك، إلى تواطئه مع السلطات النازية بتبييض أموال الحكومة النازية بين 1939 و1945، إلى تسهيل تسييل أصول مالية ألمانية ولوحات وسبائك ذهب مشبوهة، إلى “فضيحة كياسو” في  1976، بعد الاندماج مع المصرف العقاري السويسري، واكتشاف تأسيس وحدة مصرفية في ليخنشتاين منذ 1960 لتبييض أموال مشبوهة من إيطاليا، ما أفضى إلى محاكمات ومصادرات قياسية وغرامات هائلة في 1977، خلفت خسائر البنك بلغت 2.2 مليار فرنك فرنسي.
ورغم ذلك لم يتخلص البنك من العمليات المثيرة للشكوك، واستمر فيها بحظوظ متفاوتة، إذ أمكنه احتواء تبعات بعضها بأقل الأضرار مثل صفقات الاستحواذ على فيرست بوستن الأمريكي في 1988، ثم البنك الشعبي السويسري في 1993، والبنك الزراعي الجديد في العام نفسه، قبل تفجر فضيحتي الاستحواذ على بنك الضمان البرازيلي في 1990، وبنك الأعمال الأمريكي دونالدسون، لوفكين وجينرات في 2000، مقابل 12.8 مليار دولار.
وفي 2014، سلطات الولايات المتحدة غرامة على كريدي سويس بـ2.6 مليار دولار، لدوره في مساعدة دافعي ضرائب أمريكيين على إخفاء أموالهم.
وفي 2018 و2019، تكبد البنك خسائر فادحة بلغت 10 مليارات دولارات، بعد إفلاس شركتي غرينسيل البريطانية، و5 مليارات دولار بعد انهيار اركيغوس المالية.
فهل انتهت الأزمة عند هذا الحد، أما ستجهز الملفات المجهولة، إذا ظهرت، على ما تبقى من مصداقية وصلابة للقطاع المالي والمصرفي في سويسرا وأوروبا؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى