الحزبية العربية والقابيلة الأزلية للحضانة (القصرية)
بشير عمري
لا تزال قيادات وبعض أنصار عزب العدالة والتنمية الأخواني الحاكم في المغرب اليوم، تحطب في سوق الكلام عساها تجد ما تبيعه من بقيا الحجج الميتة حول سبب بقائها في الحكم برغم قرار التطبيع الذي أعلن عنه فوقيا وليس أفقيا، القصر الملكي مع الكيان الصهيوني والذي هز كل المغرب ومعه شعوب العالمين العربي والاسلامي لمركزية هذا البلد في تاريخ وثقافة الأمة جمعاء.
لا سيما وأن قادة هذا الحزب ممن قيل أنهم يمتلكون الشهادات العليا، وأرصدة واسعة من العمل الحركي والنضال الوطني، كانوا أشهر قليلة فقط من قرار التطبيع، ينطقون بالرفض المبدئي والحاسم حياله، ويعتبرون الهرولة إليه خيانة حضارية كما جاء على لسان الوزير الأول نفسه سعد الدين العثماني، فما الذي أسكتهم وأسكنهم بهذا الشكل؟ وما الذي يمكن قراءته من خلال هذا التناقض بين الخطاب والفعل في ديمقراطية المشاركة في الحكم التي أنجبها الربيع العربي؟.
لا بد أولا من الاعتراف بأن الفضاء السياسي في قطريات العرب لا يزال هشا، وما يزيده هشاشة هو أن نخب المعارضة التي ظلت لعقود ما بعد الاستقلال في الظل، إما ظل السجن أو ظل هامش العمل الوطني الفعلي، قد أضاعت موعدها ما التاريخ مذ عُسر التلاقي والتلاقح بين جيلها السياسي المحض المتقدم وجيلها المتأخر المتعلم بعمق، فالمتقدم أو الجيل الأول هو أكثر دراية ودربة سياسيبة كونه كان شريكا في التأسيس الوطني بناء الدولة القطرية، لذا هو عليم بشكل واسع بالمطبخ الوطني، مشكلته هو أن الظروف الدولية والاقليمية التي تلت مرحلة الاستقلال لم تسمح له بالتعبير عن نفسه فكان يسحق في الظل سواء بالسجن أو بالهامش، في حين أن الجيل المتعلم الذي استفاد من فرص التكوين المعرفي ظلت رؤاه للسياسة نظرية ومثالية خالية أحيانا من دم وعذابات التجربة الميدانية، لهذا توقفت رؤاه للحكم وللدبلوماسية عن عتبات الحسبات النظرية، حاسبا بذلك أن الاستراتيجية في معارك التاريخ تكشفها النظريات والاكاديميات لا غير.
ضياع هكذا موعد جيلي أركس التجربة الوطنية وأبقاها في صفرية المنطلق والانطلاق الازلية، لكون التجربة أضاعت المعرفة هاته الأخيرة أضغات التجربة، وبالتالي بقي العمل السياسي الوطني عقيما.
هذه الحالة من الفراغ الكبير، ستكون مؤلمة مع مقدم الحرية التي فرض جزء منها الربيع العربي، بفضل التحولات الكبرى التي شهدها العالم على كل الصعد والمستويات، من تكنولوجيا عابرة للقصور والقارات، إلى اتساع مهول لنطاق نشاط حقوق الانسان ودخوله كرقم بارز في المعادلة الاستراتيجية في العالم.
وإذا كان اليسار العربي قد أضاع فرصة تحقيق التغيير التي أتيحت له في أكثر من قطر عربي سنوات السبعينيات وقبل الستينيات التي شهدت هزائمه العسكرية القاصمة، وبالتالي فقد الكثير من وهجه في سوق الأفكار والسياسة بالفضاء العربي، فإن الاسلامين الذين استفادوا كثيرا من مقدم الربيع العربي، قد أبانوا عن نقص حاد في القدرة على الموازنة بين مبادئهم وما ينهال عليهم من فوق من أثقال مستجدات السياسة والمكر الاستراتيجي، ما أدى بهم إلى المضي عكس ما يقولون وعكس ما يعدون.
في قرار التطبيع بالمغرب، ما يلام عليه حزب سعد الدين العثماني هو أمران خطيران في التجربة الديمقراطية التي فتحها الربيع العربي.
الأولى هي قبول البقاء في الحضانة السلطانية الأولى، بمعنى القبول بالعمل ليس بقوة الشعبية وشرعيتها التي تأتت من خلال الانتخابات، بل بالرعاية والتوجيه القسري “القصري” وجل التجارب العربية تمضي على هذا النحو، إذا كما تمكن أي حزب من الفوز بالأغلبية البرلمانية فإن القرارات المصيرية للبلد، الخارجية، الداخلية، الدفاع، تظل في يد الوصايا الأبوية، (الاستخبارات، العساكر، اللوبيا) في حين يكتفي الحزب الحاكم بممارسة دور قائد الجماعة أو رئيس بلدية على نطاق أوسع، كل ذلك بعد أزيد من سبعة أو ستة عقود من الاستقلال.
في حين كان زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الراحل عبد الرحيم بوعبيد قد رفض مثل هذا الدور حين دُعي لدخول الحكومة سنة 1984 أين اشترط وقتها تولي ملف الصحراء الغربية، وهو ما رفضه الملك الحسن الثاني، وبالتالي رفض بدور العرض، ما يؤكد تراجع القوة المطلبية للمعارضة رغم الظروف المختلفة تماما التي ميزت تجربة الجيلين المتقدم (مسحوق منزوع الحرية) والمتأخر (المتحرر من وحشية سنوات الرصاص).
وثاني ما يلام عليه الحزب هو ليس التطبيع في حد ذاته، بل للقبول به مع أنه ليس من أجندة أو حساب الحزب الاستراتيجية، فالأمر كان يقتضي من هذا المنطلق مغادرة الحكم، ليس فقط للتعبير عن الاعتراض عن القرار الفوقي الصادم والمصادم للشعب وللقواعد الشعبية والنضالية للحزب، بل لكون الحزب لا يمتلك آلية التعامل مع هذا الملف في أبجدياته وخطاباته وأجندته، وبالتلي عدم التلاعب بالشعب وبالحزب معا.
وقد رأينا كيف أن رئيس وزراء بريطانيا دفيد كامرون أقدم على تقديم استقالته مباشرة بعد أن نسف البريطانوين مشروعه الذي كان قائما على ضرورة البقاء بالاتحاد الاوروبي، فمنطقيا كان عليه المغادرة، لأنه لا يملك أن يعطيهم من بديل، ضد خطته وقناعته.
بينما لدينا، الحزب لا يهتم بأجندته وبرنامجه (إن كان يمتلك حقا ذلك) بقدر اهتمامه بالبقاء في السلطة ومتاعها، مهما لزمه من تنازلات ونسيان للوعود الانتخابية، بل إن قادته لمستعدون أن ينقلبوا 180 درجة ضد قناعاتهم الفكرية، و إطلاق العنان لخيالهم وشاعريتهم الخطابية لتصنع التبريرات، لقاء بقائهم في الحكم أو في جزء هامشي من سلطان الحكم المطلق.
هكذا إذن تزداد التجارب الوطنية العربية انتكاسات وارتكاسات بسبب مواقف مخزية مخذلة، تتخذها أحزاب وشخصيات غير مسئولة وغير واعية بالعواقب التاريخية الناجمة عن تلك القرارات، والأمر عائد بالضرورة لنضوب الخيال السياسي وطغيان المعرفة النظرية على المعرفية التجربية في السياسة وآلياتها، وكيفية تفكيك أسس قيام سلط دول الاستقلال، التي تقوت بالخارج أكثر منه بالداخل في زمن غياب الوعي السياسي والوطني.
كاتب صحفي جزائري