اليمين الديني الهندي في لحظة جنون… فكريّ
وسام سعادة

عندما فصلت المحكمة العليا في الهند في سبتمبر من عام 2018 في القضية الخلافية بامتياز، المتصلة بالإجازة للنساء الدخول إلى معبد ساباريمالا الهندوسي الجبلي، الواقع في محمية نمور بيريار، في ولاية كيرالا الموسومة بالهيمنة المزمنة للشيوعيين فيها، وفي إبطال لتقليد تمييزي كان يُحظّر على النساء «في سن الطمث» الدخول إليه بدعوى الحفاظ على طهارة المكان، عُدّ الأمر بمثابة تصديق للأسس العلمانية، وتلك التي تلتزم فيها الهند المساواة بين مواطنيها من الناحية الدستورية.
أظهرت المحكمة العليا في حينه أنّ مؤسسات الدولة لم تصبح بعد كلّها مطواعة للحزب القومي الديني الحاكم على الصعيد الإتحادي، حزب «بهاراتيا جاناثا» بقيادة رئيس الوزراء نارندره مودي، وأنّه بمقدورها أن تفصل في مسألة حسّاسة رغم التصادم الحاد بين تعبئتين.
فثمة حركة ضاغطة قادها اليسار المهيمن داخل ولاية كيرالا نفسها، بالتكاتف مع المنظمات النسائية التقدمية في الهند ككل، من أجل الغاء هذا التمييز الذي يصدّ النساء عن هذا المعبد الذي يحظى بقدسية شديدة جنوب الهند، وهو المقصد لزهاء خمسة عشر مليونا من الحجاج الهندوس سنوياً، يجري التقليد بأن يلتزموا بصوم حاد لأربعين يوماً قبل العروج إليه. ووصل هذا التحريك الشعبي اليساري النسوي إلى ذروته في السلسلة البشرية التي شاركت بها خمسة ملايين من النساء الكيراليات على امتداد الساحل المالاباري، بعيد أشهر من صدور قرار المحكمة العليا.
في المقابل، نشطت الحركة المضادة للإجازة للنساء الدخول الى معبد ساباريمالا، برعاية من الحزب القومي الديني الحاكم على المستوى الإتحادي، وهي حركة لم تتوقف بعد صدور قرار المحكمة، وما زالت مصممة على كسر هذا القرار أو تعطيله عملياً. اللافت أنّها حركة تذرّعت بالمبدأ العلماني على طريقها. إذ عدّت الأمر تدخلاً للدولة في شؤون الدين، واستهجنت كيف تكون الحملة من أجل السماح للنسوة الدخول الى ساباريمالا منشطة أساساً من طرف الشيوعيين الذين لا يفترض لديهم أن تكون لهم حاجة إلى الإله آيابان، وليد الإلهين شيفا وفيشنو، والذي يتقاطر إليه الحجاج الهندوس للتعبّد في ساباريمالا. في مواجهة التهم بالرجعية والبطريركية والإقصاء، تسلّحت الحركة المطالبة باستمرار منع المعبد عن النساء بحجتين، فصل الدين والمعبد عن الدولة، بحيث يكون يرعى الكهنة والرهبان من الهندوس، بمعية الأعراف والتقاليد، شؤون المعبد، ومن يدخل إليه ومن لا يحق له الدخول، وضرورة احترام الدولة لمعتقدات الناس ومشاعرهم الدينية.
شخص واحد زاد على الحجتين الآنفتين ثالثة صادمة. ويدعى جي ساي ديباك. ونال من وقتها حظوة اعلامية وشعبية وافرة.

ثمة حركة ضاغطة قادها اليسار المهيمن داخل ولاية كيرالا نفسها، بالتكاتف مع المنظمات النسائية التقدمية في الهند ككل، من أجل الغاء هذا التمييز الذي يصدّ النساء عن هذا المعبد الذي يحظى بقدسية شديدة جنوب الهند، وهو المقصد لزهاء خمسة عشر مليونا من الحجاج الهندوس سنوياً

هذا الشاب المولود في مدينة حيدر آباد منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، المدينة التي كانت عاصمة لسلالة نظام الملك فيما مضى، وهي عاصمة لولاية تيلنغانا اليوم، مع أنه ينتمي الى ثقافة ولغة التاميل أكثر مما ينتمي الى ثقافة ولغة التيلوغو، كان انتقل من الهندسة الميكانيكية إلى القانون والمحاماة، في موازاة انخراطه في الحركية القومية الدينية، واشتهاره مبكراً بمواقف حادة ضد النزعة القومية الإقليمية، «التمايزية» (وأحياناً الانفصالية) لجنوب الهند عن شمالها (أي ما يعرف بالقومية الدرافيدية. فهذه تنظر عموماً الى ثقافة الشمال الهندي الآرية كمستبيحة للتاميل وأهل الجنوب، وتنحو الى تبجيل من يُعتبرون أشراراً في الملاحم الهندية، كأبطال وطنيين للحضارة الدرافيدية جرى الافتئات عليهم وتشويه صفحاتهم من قبل السردية الشمالية. بالضد من هذه النزعة الدرافيدية، اعتنق ساي ديباك النظرة التي ترى الى الهند كلّها على أنها أرض مقدسة للهندوس، غير قابلة للتجزئة، سياسية كانت أم ثقافية.
بيد أن ما منح ساي ديباك شهرة استفزازية واسعة عام 2018 كانت مذكرته الى المحكمة العليا، بالنيابة عن ولاية هندية أخرى، ماديا براديش، ضد السماء للنساء بزيارة المعبد المحرّم عليهن في ساباريمالا. حجته في ذلك جاءت صادمة. إذ اعتبر أن المادة 25 من الدستور الهندي حول الحقوق الأساسية لكل شخص، لا تحصر مفهوم الشخص بالإنسان الفاني وحده، وبالتالي الإله آيابان، هو من الناحية الدستورية شخص يتمتع بما يتمتع به أي شخص من حقه في احترام حرمة منزله!
بشكل أو بآخر كان ساي ديباك لحظتها يكثف من خلال حجته الغرائبية لفكرة متداولة في أماكن مختلفة من العالم، بالضد من المفهوم التنويري للعقد الاجتماعي، فكرة متوارثة منذ نهاية القرن الثامن عشر، وفحواها أن العقد المجتمعي الفعلي لا يُحصر بالبشر الأحياء فقط، وإنما ينخرط فيه كعقد الأحياء والأموات، ويتقوى بالأعراف والتقاليد والجذور والذاكرة. بناء عليه، كان يلزم المحكمة العليا في الهند أن تستقبل مذكرة تتظلم للإله آيابان، بدعوى أنه شخص يتمتع بسهم من أسهم العقد الاجتماعي، بحقوق دستورية مكرسة له كشخص.
لم يكتف ساي ديباك بذلك. فالمهندس الميكانيكي والمحامي الغرائبي والناشط في اليمين القومي الديني الهندي، يعوّض بطاقته الحماسية السجالية المتواصلة عن ضعف مثقفي الحزب الحاكم، مقارنة بالأنتلجنسيا الهندية التي تقف على الضفة المضادة لهم. أخذ يفرض نفسه كأحد أيديولوجيي «النظام الجديد» الرئيسيين، نظام الهندوتفا في الهند، المنطلق من معادلة الهند للهندوس. فمن بعد قضية ساباريمالا عكف على تدبيج ثلاثية فكرية ضخمة، تحت عنوان «الهند من حيث هي بهارات». مستعيداً هذه الصيغة من المادة الأولى من دستور بلاده، ونص هذه المادة: «الهند، المعروفة كذلك باسم بهارات، هي اتحاد بين ولايات. وهي جمهورية ذات سيادة اشتراكية علمانية ديموقراطية تتمتع بنظام برلماني للحكم».
ما سعى ديباك في هذه الثلاثية على التنظير له، هو أن الالتزام الدستوري بالمطابقة بين مفهوم الهند وبين المفهوم الأقرب الى الدلالة الحضارية الدينية السنسكريتية – الهندوسية، بهارات، يحوي على تناقض أساسي، بين منطق الدولة العلمانية الموروثة بشكل أو بآخر عن المستعمر، وبين الكيان الذي تطمسه هذه الدولة ذات المنبت الاستعماري، والذي هو «بهارات». اللافت من هذه الناحية أنه، من موقع يميني قصوي، يستعيد كل عدّة خطاب «ما بعد الاستعمار» الذي انتشر على اليسار، أي الخطاب الذي يشدّد على الاستعمار كاستلاب ثقافي ولا يحصره بالسيطرة المباشرة لأجل النهب أو لأجل الاستيطان. لكن، بالنسبة الى ساي ديباك، فالخطاب البوست كولونيال اليساري بقي عالقاً في هذا الاستلاب الثقافي للمستعمر الأوروبي، «المسيحي والأبيض» يشاغب من داخل قوالب هذا المستعمر الذهنية والمعرفية، في حين أن ما يزعم ديباك أنه مبتغاه هو نزع الاستعمار الثقافي بشكل جذري، وهو ينطلق في ذلك مما يعتبره مفارقة، وهو أن المستعمرات السابقة، كحال الهند، كان عليها أن تستعيد ماضيها كي تنتزع حقها في تقرير المصير، لكنها عندما التزمت بالترسيمة الأوروبية المسيحية للقانون الدولي، كانت تتغرب حيال هذا الماضي.
بالنسبة الى ديباك، كل مفاهيم القانون الدولي مرتبطة بالديانة المسيحية، من بعد علمنتها، في حدود تشذيبها، إنما تشذيبها وترشيقها لأجل جعلها قابلة للانتشار والهيمنة. بالتوازي، لا يكاد ينتهي ساي ديباك من مساجلته مع الطابع المسيحي للنموذج الذي صدره الاستعمار عن الدول الحديثة والدستور الوطني والمواطنية، حتى يندفع إلى تطرف مواز فيما يتعلق بالتاريخ الاسلامي للهند. اذ يعتبر أنه لا يمكن للهند ان تصفي الحساب مع التركة الاستعمارية الثقافية الأوروبية، ذات السمات العرقية – البيضاء – والدينية – المسيحية، الا بتصفية الحساب مع استعمار سابق عليه، يخلع عليه تسمية «الاستعمار الشرق أوسطي للهند» يعني بها العصور السلطانية فيها، وعلى الرغم من أن السلالات السلطانية الإسلامية في الهند متحدرة من فرغانة ووسط آسيا، تركية – مغولية وأفغانية، لكنه يصنف ألف عام من تاريخ الهند في ظل هذه السلالات على أنه استعمار «الشرق الأوسط» لبلاده، بدعوى أن دين هذه السلالات قادم أساساً من الشرق الأوسط.
يكثف ساي ديباك الكثير من مفارقات الهند في اللحظة الراهنة، لحظة توطد أيديولوجيا الهندوتفا القومية الدينية فيها. لكنه يظهر أيضاً سهولة استعارة اليمين المتطرف لبعض من مقولات «خطاب ما بعد الاستعمار» أكثر من سهولة استفادة اليسار نفسه من هذه المقولات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى