هوامش على الاتفاق الصيني
عبد الحليم قنديل

سال حبر كثير، وتدافعت آلاف الكلمات ومئات الأصوات على الهواء، كلها تبشر أو تنفّر من تغيرات دراماتيكية متوقعة في مشاهد المشرق والخليج العربي، بعد عقد اتفاق سعودي إيراني برعاية صينية، يعلن عودة الطرفين لإقامة علاقات دبلوماسية وقنصلية كاملة بعد نحو شهرين، وتفعيل اتفاقات سابقة في السياسة والتعاون الأمني، عقدت على مشارف القرن الجاري عامي 1998 و2001، قبل أن تتأزم العلاقات، وتصل للحائط المسدود عام 2016، ثم عودة التواصل والتفاوض السري وشبه العلني في سبع جولات في العراق وسلطنة عمان، وإلى أن جرى تتويج الاتفاق الأخير في العاصمة الصينية بكين.
وما من شك في إيجابية الاتفاق الصيني، وإن كانت المفاجأة اللافتة فيه، ليست أولا في سلوك الرياض وطهران، والميل إلى تفاهم رشيد، بدت بوادره قبل نحو عام في استدامة الهدنة في اليمن، ووقف غارات الطائرات المسيرة والصواريخ، وهو ما زاد منسوب وفرص التهدئة والتطبيع الإيراني ـ السعودي، الذي احتاج الدفعة الكبرى من الصين، بعلاقاتها الوثيقة عبر عقود مع طهران المحاصرة أمريكيا وغربيا، وبعلاقاتها الجديدة مع السعودية، التي شهدت أواخر العام الماضي، اندفاعا للذروة، عبر ثلاث قمم سعودية وخليجية وعربية مع الرئيس الصيني في الرياض، بعدها ذهب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى بكين للقاء الرئيس شي جين بينغ، الذي ينوي جمع قادة إيران ودول الخليج العربي للقاء قريب في بكين، توضع فيه اللمسات المتممة لضمان هدوء منطقة، يعتبرها صانع القرار الصيني عظيمة الأهمية لمصالح الصين، كونها الشريك التجاري الأول للأطراف كلها، والمشتري الأول لموارد الطاقة الغنية فيها، إضافة لموقعها الجغرافي المميز على خرائط «الحزام والطريق» الصينية، ورغم أن اهتمام الصين بالمنطقة ونزاعاتها ليس جديدا تماما، فقد سبق لها أن دعت لتفاهم عند شاطئي الخليج منذ عام 2017، إلا أن النشاط المبادر المتحمس للصين بدا جديدا، وفي سياق ظاهر، يواكب التغيرات الدراماتيكية حقا في موازين القمة الدولية، والانفكاك النسبي لدول خليجية من أسر القبضة الأمريكية، وتزايد رغبات بعض قادتها في تغيير معادلات قديمة، كانت تعطي الولاء الحصري لواشنطن مقابل حماية السلاح، وهو افتراض تآكلت جدواه مع التغيرات المتسارعة في توزيع قوة السلاح والاقتصاد والتكنولوجيا، ثم خروج الصين من كمونها الاستراتيجي إلى فضاء الحضور العالمي، وترجمة قوتها الصناعية والتجارية والتكنولوجية المتفوقة إلى دور سياسي، بدا فيه إنجازها لاتفاق طهران والرياض، كأنه أولى أمارات فاعلية تحول العالم إلى حالة تعدد الأقطاب على حساب عالم القطبية الأحادية الأمريكية، ولا يزال التحول جاريا باطراد، وعلى وهج نيران حرب أوكرانيا، التي استعادت لموسكو بمعية الصين دورا متزايد الأثر في المنطقة، وهو ما يثير حنق واشنطن، التي حاولت ابتلاع الضربة الصينية، وادعاء الترحيب بالاتفاق السعودي الإيراني، ربما لكسب وقت إضافي، تحاول فيه جبر ما انكسر، في منطقة تعدها أمريكا من مراكز امتيازاتها الخاصة احتكارية الطابع.
اتفاق السعودية وإيران يبقى ثنائيا في الأساس، وإن صح توقع أن تكون له آثار جزئية محسوسة في ملفات المنطقة عموما، ولكن بغير مزايدات ولا مناقصات
وفوق حنق أمريكا المغلف دبلوماسيا، يبدو غضب «الكيان الإسرائيلي» المذعور بلا رتوش، فالاتفاق الإيراني السعودي يمضي في عكس الاتجاه السابق، الذي سعى إليه العدو بتمكين من واشنطن، وبتوالى عقد ما يسمى «اتفاقات إبراهام»، التي جعلت للكيان الإسرائيلي مواطئ قدم عسكرية على حافة الحدود الإيرانية، وبدت كتمهيد متلاحق الخطى، يهيئ المسرح لضربة عسكرية لإيران، تحلم «إسرائيل» بها، وتحث واشنطن على المشاركة، وربما قيادتها ميدانيا، وبدمج دول خليجية فيها، بدعوى أولوية خطر البرنامج النووي الإيراني، وتصوير طهران كأنها العدو المشترك، والعمل لتوريط السعودية نفسها في الضربة، وفي تحمل تبعاتها، وهو ما يبدو أن السعودية قررت باتفاقها مع إيران، أن تتخارج من خططه ومن ترتيباته الجارية، ومن التجاوب الموارب السابق مع محاولات فرض التطبيع مع كيان الاحتلال، وهو ما قد يؤثر إيجابيا في طبائع العلاقات على مواقف دول خليجية أخرى، ربما باتت تدرك الطبيعة التدميرية لعلاقات التحالف مع إسرائيل، المنهمكة في حروب توحش إجرامي دموي ضد الشعب الفلسطيني، والممزقة داخليا على نحو غير مسبوق في تاريخها الاحتلالي، والمواجهة ليقظة الشعب الفلسطيني ومقاومته الصاعده بإطراد، وكلها تطورات تجعل التعامل مع إسرائيل رجسا من عمل الشيطان، فما بالك بمد أواصر التنسيق والتحالف الضمني ثم الظاهر معها، وتحمل عواقب الصدام مع رأى عام عربي، تطفو موجات تعاطفه وتضامنه مع كفاح الشعب الفلسطيني، ويمقت سيرة التطبيع «الملوث» مع كيان الاحتلال، وتتزايد مشاعر ازدرائه للسياسة الأمريكية وقواعدها العسكرية، ورعايتها غير المقدسة لكيان الاحتلال وجرائمه، وسعيها لتكريس الأولويات الإسرائيلية في قصور الحكم العربية، وبدعوى بناء تحالف اليهود مع السنة ضد خطر الشيعة، وهو طعم مسموم، جرى ابتلاعه للأسف على مدى عقود الهوان العربي، ودفعت فيه عشرات بل مئات مليارات الدولارات، وصدرت له مئات الفتاوى السامة، وقامت لأجله عشرات التنظيمات الإرهابية السنية والشيعية، ولم يكن حصاده إلا وبالا داميا، مع حروب تكفير عبثي متبادل، حطم دولا عربية، وأهلك حرثها ونسلها، وسقطت فيه مئات آلاف، بل ملايين الضحايا، وبعشرات أضعاف تضحيات العرب في الحروب مع كيان العدوان والاحتلال الإسرائيلي، وكان ذلك اندفاعا إلى جحيم، صنعته أياد مجرمة، تصورت أنها تصد الخطر الإيراني بتكفير الشيعة عموما، بينما كان الأزهر الشريف قد حسم الخلاف قبل ما يزيد على ستين سنة من اليوم، وأفتى شيخه الجليل الراحل محمود شلتوت بإنهاء الفرقة المذهبية، وبجواز التعبد الإسلامي على مذهب الشيعة الجعفرية (الاثني عشرية)، تماما كما صحة التعبد على المذاهب الفقهية السنية الأربعة وسواها، كان ذلك في زمن صحوة القومية العربية الجارفة، ومع انزلاقنا إلى انحطاط تاريخي بعد نصر أكتوبر 1973، وخذلان السياسة لنصر السلاح، واتخاذ «العدو» الإسرائيلي صديقا وخليلا، دخلنا في عصر انهيارات، واقعا وفكرا وسلوكا، وتجنيدا لحركات «دينية» في خيام المخابرات الأمريكية والغربية، واستعادة جهولة لسياسة «فرق تسد» الموروثة عن الاستعمار البريطاني القديم، وتفرقة وفتنا طائفية بين مسلمين ومسيحيين عرب، ثم فتنا «مذهبية» بتكفير الشيعة العرب، اشتعل أوارها بعد ثورة الخميني الإيرانية، ولم تكن لها من نتائج واقعية بعد خراب الأوطان، سوى دفع الشيعة العرب إلى أحضان إيران الشيعية، وكملجأ وملاذ بديل إجباري، وتضخم قوة إيران مقابل تفتيت نسيج مجتمعات عربية مجاورة، أي أن مجد إيران ـ للمفارقة ـ بني جله على نفقة العرب التطوعية، إضافة لما نعرفه من أدوار عربية في تسهيل احتلال أمريكا للعراق، ومسخ دولته، وفسح المجال لتمدد القوة الإيرانية، التي لن تتأثر سلبا بتوابع الاتفاق الصيني الأخير .
يبقى بعد ذلك كله، أن آثار الاتفاق الإيراني السعودي، مما يصح النظر له بإيجابية عموما، ولكن من غير تهويل ولا تهوين، فهو قد يغير طبيعة العلاقات الثنائية بين البلدين، وقد يبدأ عهد جديد، قوامه حالة من التطبيع البيني، والسعي لإزالة عناصر التوتر، ولكل طرف مطالبه الملحة في تفكيك الاحتقان، فإيران تهدف لوقف ما تسميه الدعم السعودي لفئات المعارضة الإيرانية، والسعودية تريد الهدوء عند حدودها اليمنية، ووقف الاستنزاف في حروب اليمن، والبحث عن صيغة مصالحة ما، لا تبدو طرقها سالكة تماما، مع تعدد مصادر التدخلات، وتعقيد الكوارث التي حلت باليمن، وتنامي فصائل ودواعي التفكيك، بينما تريد إيران بالطبع، أن تضفي حالة من الشرعية على تغول الحوثيين عسكريا، وحيازتهم الواقعية لأغلب مناطق شمال اليمن، وقد لا تكون مهمة إعادة توحيد اليمن واردة قريبا، بل مجرد إزاحة المخاطر عن الجوار السعودي، وشيء من ذلك التجميد قد يمتد إلى البحرين شرقا، أي التهدئة، من دون زوال دواعي التربص، وإلى لبنان بتسهيل ما في معضلة انتخاب رئيس، قد لا يكون بالضرورة اسمه سليمان فرنجية، مرشح الثنائي الشيعي المدعوم إيرانيا، وفي العراق بطبائع التوازنات، تبقى الأوضاع على حالها، مع تلطيف في الألفاظ وإبداء لروح التعاون، وفي سوريا، قد يفيد التفاهم الإيراني السعودي، بالذات في دعم الرياض لأطراف عربية كثيرة، تريد إعادة الدولة السورية لمقعدها الرسمي في الجامعة العربية، والمعنى باختصار، أن اتفاق السعودية وإيران يبقى ثنائيا في الأساس، وإن صح توقع أن تكون له آثار جزئية محسوسة في ملفات المنطقة عموما، ولكن بغير مزايدات ولا مناقصات، فتوازن القوى يحكم علاقات الحرب كما علاقات السلام.