السياسي – أبرزت صحيفة الغارديان البريطانية استمرار حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على غزة من دون أفق واضح لنهايتها، فيما يستمر العدّاد في تسجيل آلاف الضحايا من المدنيين الفلسطينيين، وغرق المجتمع الإسرائيلي في مأزق سياسي وأخلاقي يتعمّق يوماً بعد يوم.
وقالت الصحيفة فإنه بينما يتساءل كثيرون: هل ستدوم هذه الحرب على غزة إلى الأبد؟ تتصاعد الشكوك بأن استمرارها لم يعد يُملى من ضرورات الأمن القومي، بل من اعتبارات البقاء السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
منذ أكثر من 650 يومًا، تحوّلت غزة إلى مسرح دائم للمجازر، يتكرر فيه المشهد ذاته: طوابير طويلة من المدنيين الباحثين عن الطعام والماء تُقصف بلا إنذار، مخلفة ضحايا بالجملة، من الأطفال والنساء والرجال العُزّل.
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى مقتل أكثر من 800 شخص فقط في محيط مراكز توزيع المساعدات، معظمها في مواقع تتبع لمؤسسة “غزة هيوماينيتيرين فاونديشن” – المشروع المشترك الأمريكي الإسرائيلي الذي أُنشئ لتجاوز دور الأمم المتحدة في إيصال المساعدات.
الأمر الصادم، أن حتى أكثر المدافعين عن دولة الاحتلال لا يزعمون أن أولئك الشهداء كانوا من المقاومين أو يشكلون تهديدًا أمنيًا، بل مجرد ضحايا أبرياء لحرب بلا هدف.
هذا الموت المجاني بات سمة يومية للحرب، التي تحوّلت إلى حرب استنزاف منخفضة المستوى، لا تختلف عن اضطرابات أيرلندا الشمالية التي امتدت لثلاثة عقود.
-حرب من أجل البقاء السياسي
اللافت أن غالبية الإسرائيليين أنفسهم باتوا يرفضون هذه الحرب. وفقًا لاستطلاعات حديثة، فإن أكثر من 74% من الإسرائيليين يريدون إنهاء القتال، بينما فقدت الغالبية ثقتها بنتنياهو، الذي بات يُنظر إليه كمسبب أساسي لإطالة أمد المأساة.
حتى الأحزاب المتحالفة معه، كأحد أحزاب الحريديم، بدأت بالتململ والانسحاب من ائتلافه، احتجاجًا على تجاهله أولوياتهم الداخلية مقابل استمراره في التصعيد العسكري غير المجدي.
لكن لماذا لا تنتهي الحرب إذن، رغم هذا الإجماع الشعبي على ضرورة وقفها؟ الجواب الأكثر وضوحًا: لأن بقاء نتنياهو السياسي مرهون باستمرارها. فطوال الشهور الماضية، فضّل نتنياهو، وفقًا لتحقيق موسع أجرته صحيفة نيويورك تايمز، إطالة أمد الحرب خشية أن يخسر دعم اليمين المتطرف داخل حكومته، وبذلك يُسقطونه من السلطة.
-محطات ضائعة للسلام
في أبريل/نيسان 2024، كان نتنياهو قريبًا من الموافقة على هدنة مدتها ستة أسابيع، تتضمن إطلاق سراح أكثر من 30 رهينة إسرائيلي، وفتح الطريق أمام وقف دائم لإطلاق النار.
إلا أن ضغوط وزيريه المتطرفين، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، دفعته للتراجع عن الصفقة في اللحظة الأخيرة، خوفًا من أن يُنظر إليه كضعيف أو كمن “استسلم لحماس”.
وفي يوليو/تموز، كرر السيناريو نفسه حين تعطلت مفاوضات متقدمة في روما بعد أن أضاف نتنياهو بشكل مفاجئ ستة شروط جديدة، تقوّض أي فرصة للاتفاق. لماذا؟ مرة أخرى، لأن بن غفير اقتحم مكتبه مهددًا بالانسحاب من الحكومة إذا تم إبرام ما وصفه بـ”الصفقة المتهورة”.
كل هذه اللحظات كان يمكن أن تنقذ آلاف الأرواح – نحو 23 ألف قتيل إضافي منذ ربيع 2024 – لكن نتنياهو ضُحّي بها على مذبح المصلحة الشخصية.
-حساب التاريخ قادم
الإسرائيليون يعلمون، في قرارة أنفسهم، أن قيادتهم تتحمّل المسؤولية الكاملة عن استمرار هذه الحرب.
الصحفية البارزة إيلانا ديان قالت في أحد البودكاستات: “أدركنا في النهاية يوم 8 أكتوبر، بعد هول ما جرى في السابع منه. وبدأنا نطرح الأسئلة الصعبة حول قيادتنا، وحول هذه الحرب التي لا تنتهي”. وهي دعوة محقة لمساءلة من اختار إراقة الدماء، بدلًا من إنقاذ الحياة.
ورغم كل ذلك، لا يزال نتنياهو يخطط للبقاء. فمع انتهاء الدورة البرلمانية الإسرائيلية هذا الأسبوع، تصبح حكومته محصنة نسبياً من السقوط خلال عطلة الكنيست حتى أكتوبر، ما يعطيه فسحة للاستمرار دون تهديد فوري من شركائه المتشددين.
وإذا استغل هذه الفرصة لإبرام اتفاق تهدئة، فسيكون ذلك بمثابة إدانة إضافية له: إذ يعني أن الحرب كانت قابلة للإنهاء في أي وقت، لكنه أجّل نهايتها عمدًا لحماية نفسه.
-مجازر بلا نصر
حتى اللحظة، تجاوز عدد شهداء قطاع غزة 58 ألف إنسان – الرقم الذي كان يمكن أن يُخفض لو تم توقيع أي من الاتفاقات المؤجلة.
ومع كل ضحية تسقط، تتراكم مسؤولية نتنياهو الأخلاقية، كرئيس وزراء اختار أن يكون الموتى من الطرفين مجرد أدوات لإطالة نفوذه السياسي.
ورغم محاكمته الجارية بتهم الفساد، ورغم اهتزاز الثقة الشعبية، فإن نتنياهو يستعد للعودة إلى الناخبين باعتباره “رجل الأمن والنصر”؛ مُدّعيًا أنه “هزم أعداء (إسرائيل)”، فيما تُروّج حملاته لإنجازات مزعومة ضد حزب الله وإيران، متجاهلةً تمامًا الثمن الباهظ المدفوع من دماء الأبرياء.
لكن التاريخ لا ينسى. وسيأتي اليوم الذي يُحاسب فيه بنيامين نتنياهو، ليس فقط في صناديق الاقتراع أو ساحات القضاء، بل في ضمير البشرية، كزعيم اختار إطالة الحرب والموت والدمار من أجل بقائه، وترك غزة تنزف بينما يراهن على أن “الحرب الأبدية” هي فرصته الأخيرة للنجاة.