هل ستؤدي الكوارث الناجمة عن الحروب في غزة ولبنان إلى إعادة النظر في الوجود العسكري الإيراني ببلاد الشام؟
إذا حكمنا من خلال الضجة التي تعصف بالدوائر السياسية في طهران، والتي يتردد صداها في وسائل الإعلام الرسمية، فإن الإجابة قد تكون «أجل». ولعل 4 عوامل قد دفعت بإعادة النظر في الأمر إلى مرتبة أعلى على جدول الأعمال.
العامل الأول: عندما يشعر أكثر الرئيس السوري بشار الأسد بمزيد من الأمان في وضعه المتقلص بعد أكثر من عقد من الحرب في سوريا، فإنه يأمل في حشد الدعم الدولي لإعادة البناء التدريجي للأرض غير الخاضعة لحكمه بصفتها دولة قومية. وفي هذا الصدد، يبدو أنه يحظى بدعم ليس فقط من روسيا، وإنما أيضاً من غالبية جامعة الدول العربية، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي.
لبلوغ هذه الغاية، عليه أن يبسط سلطانه إلى ما هو أبعد من دمشق و«جزر الاستقرار» الأخرى في مختلف أنحاء سوريا، مما يتطلب انسحاباً مخططاً من القوات الأجنبية التركية والأميركية والروسية والإيرانية، التي تشكل كل منها إقطاعية بدعم من المجتمعات المحلية العربية والكردية والتركمانية. ولأن العدد الأكبر من إجمالي القوات الأجنبية في سوريا يقع تحت السيطرة الإيرانية، فإن الأسد يعدّ رحيل طهران أولوية.
ووفق مصادر في طهران، فقد أثار الرئيس السوري هذه المسألة بحذر عام 2022، بعد التشاور مع روسيا، لكنه اصطدم بجدار إيراني. وكانت حجته أن سوريا تحتاج إلى البدء في إعادة الإعمار، وهو المشروع الذي يستلزم استثمارات تقدر بنحو تريليون دولار على مدى عقد من الزمان.
غالباً ما تعهد الجنرال الإيراني الراحل قاسم سليماني بإعادة بناء سوريا. وتشير التقديرات الإيرانية إلى أن سليماني أنفق أكثر من 20 مليار دولار في سوريا.
بدأت الأمور في التغير عندما أطلق الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، في ولايته الرئاسية الأولى سياسة «الضغط الأقصى» التي اعتمدها لتضخيم مشكلة السيولة لدى طهران. وكانت عودة فصيل أوباما إلى السلطة في واشنطن إبان عهد جو بايدن سبباً في وقف «الضغط الأقصى» وتمكين طهران من الحفاظ على وجودها، المكلف إلى حد كبير، في بلاد الشام.
«العامل الثاني»: تعدّ عودةُ ترمب المرتقبة العاملَ الثاني الذي أثار مسألة الانسحاب الإيراني من بلاد الشام؛ بدءاً من سوريا. ولهذا السبب، تطرق الرئيس الأسد إلى هذه المسألة في اجتماعاته الأخيرة مع مبعوثين رسميين إيرانيين. كان أحد الاجتماعات مع وزير الدفاع الجديد، العميد عزيز ناصر زاده، الذي – رغم أنه ليس مسؤولاً عن القوات الخاضعة لسيطرة إيران في سوريا – يمكنه نقل رسالة الأسد إلى المؤسسة العسكرية في طهران.
وكان الاجتماع الثاني مع علي أردشير لاريجاني، وهو مسؤول كبير سابق كان أُبعد عن منصبه، ولكن طُلب منه نقل بعض الرسائل؛ ونظراً إلى أنه ليس لديه منصب رسمي، فإنه لن يُلزِم الحكومة الجديدة للرئيس مسعود بزشكيان، وبالتالي فمن الممكن إجراء دورات مكوكية لاحقة. ووفقاً للمحللين في طهران، فقد استمع المبعوثون الإيرانيون إلى الأسد «بآذان متعاطفة»؛ إذ كان شبح ترمب يلوح في الأفق.
وتأمل القيادة الإيرانية ممارسة لعبتها المعتادة المتمثلة في «خطوة واحدة إلى الوراء وخطوتين إلى الأمام»، عبر عقد صفقة مع ترمب تتطلب على الأقل خفض الوجود العسكري الإيراني في بلاد الشام. ولكن، إذا لم يكن بالإمكان فعل ذلك، وعاد «الضغط الأقصى» مجدداً، فلن يكون لدى طهران ببساطة المال الكافي للحفاظ على مكانة عسكرية رفيعة هناك.
وعلى أي حال، أصبحت سوريا عشيقةً مُكَلِّفَةً للغاية لطهران.
«العامل الثالث»: هو نتيجة الهجوم الذي شنته «حماس» على إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ورد إسرائيل القوي بشكل غير متوقع. بدأت حرب طهران غير المباشرة مع إسرائيل في ثمانينات القرن الماضي مع عَدِّ لبنان ساحة المعركة الأولى. في عام 2014، بعد أن هاجمت الوحدات التي تسيطر عليها إيران إسرائيل عبر مرتفعات الجولان، أضيفت سوريا بوصفها أيضاً ساحة معركة.
«العامل الرابع»: هو انهيار استراتيجية سليماني في «الحرب عن بُعد» عبر وكلاء المناطق العازلة في الأراضي الأجنبية. وقد اختبرت كل من إسرائيل وإيران عتبة الألم لدى الطرف الآخر عبر شن هجمات مباشرة، ولكن من دون نزع القفازات.
يعرف رأس النظام الإيراني الآن أنه قد يكون مضطراً إلى خوض حربه الخاصة، في وقت يرى فيه الخبراء أن آلة حربه ليست مستعدة لخوض معركة مباشرة مع إسرائيل وحليفتها أميركا بقيادة ترمب.
وإذا كنتُ أفهمُ المزاج السائد في طهران، فإن القيادة تنظر بالفعل في مراجعة استخدام سوريا منطقةً للحرب بالوكالة. وفي الواقع، بدأ بعض الانسحاب قبل عملية «طوفان الأقصى». وفي الفترة بين عامي 2021 و2023، أُعيدَ نحو 3 آلاف «مستشار عسكري» إيراني إلى وطنهم. وفي الوقت نفسه، دُمجت وحدة «أبو الفضل العباس» من المرتزقة العراقيين مع «حركة النجباء»، وأُعيدَ نشرها في العراق. كما عقدت طهران محادثات مع إسلام آباد لتنظيم عودة الباكستانيين من فرقة «الزينبيون».
حتى لو غادرت إيران سوريا، فإنها مصممة على الحفاظ على وجودها في لبنان عبر «حزب الله». وتحلم فرنسا وبعض الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بالتوصل إلى تسوية مع طهران بشأن لبنان. وفي بحث جديد، تزعم مؤسسة «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» أن «إخراج إيران» قد يأتي بنتائج عكسية؛ من دون أن تذكر السبب.
وتأمل طهران إقناع الأوروبيين بالوقوف إلى جانبها مع وعدها بمغادرة سوريا لاسترضاء ترمب على أمل السماح لها بالبقاء في لبنان.