السّياسة والتّحدي المعرفي

عبد الإله بلقزيز

ما من شكٍّ في أنّ الفكر الفلسفيّ العربيّ المعاصر أمام تحدٍّ معرفيّ كبير تفرضه عليه إرادة معرفتِه السّياسةَ والمجالَ السّياسي في البلاد العربيّة المعاصرة. هو كأيّ فكرٍ فلسفيّ في أيّ ثقافةٍ، مدعُو إلى تقديم إدراكٍ فلسفيّ لمسائل السّياسي ( الدّولة، السّلطة، نظام الحكم، قواعد الشّرعيّة، منظومة الحقوق…) مستقل عن إدراكاتٍ أخرى تُصْنَع في ميادينَ معرفيّة أخرى ( العلوم السّياسية، العلوم الاجتماعيّة…)،لأنّ ذلك يقع في جُملة ما يوجبُه العقلُ ( الفلسفة) على نفسه من موجِباتٍ تجاه أسئلة المجتمع والواقع والتّاريخ.

ولكنّ هذا الفكر الفلسفي العربي واجد نفسَه، من جانبٍ ثانٍ، أمام حالٍ من الامتناع المعرفي المؤقّت: تفرضها عليه وضعيّة يُلفي نفسَه فيها هي؛ وضعيّة عدمِ التّناسب بين الأدوات المعرفيّة المتاحة – وهي موارد مُمْتَاحَة من الفلسفات الغربيّة امْتياحاً – وواقعٍ للمجال السّياسي العربي مختلفٍ، في التّكوين والهيئة، عن واقع المجال السّياسيّ الحديث الذي تولّدتْ معرفة عنه من طريق إعمالِ جهازٍ مفهوميّ مطابِق وناجع وإجرائي، هو عينُه ذاك الذي ينتمي إلى الفلسفة السّياسيّة الحديثة والمعاصرة، والذي يمثّل عُدّةَ التّفكير في السّياسةِ وعتادَها لدى الفلاسفة والباحثين العَرب.

من المسلَّم به أنّ الخروج بالفلسفة والنّظر الفلسفيّ من أُطر الميتافيزيقا وأسئلتها إلى الواقع الاجتماعي الماديّ والسّياسيّ يَهْبِط بتجريديّتها وعامِّها درجاتٍ إلى التّحتِ الواقعيّ. وعندها لا يصبح في وسْع أسئلة الفلسفة ومفاهيمِها وطرائقِها في استشكال مسائلها أن تجتاز قدرةَ الانطباق المألوف على موضوعها (على مثال ما هو انطباقُها على أسئلة الميتافيزيقا)، بل يُكْرِهُها الواقعي في موضوعها، غيرِ الميتافيزيقيّ، على أن تأخذ نظامَه الخاص في الحسبان من أجل أن تهتدي إلى أنجع الطُّرق إلى إحسان مقاربته.

نحن، هنا، في وضْعٍ لا تفكّر فيه الفلسفة في موضوعات ومسائلَ من قبيل: الكينونة، والكائن، والشّرط الإنسانيّ، والهويّة، والوجود والعدم، والحريّة بما هي شرطٌ للذّاتيّة، والخير، والشّرّ والجمال، والأشياء في ذاتها… ولا هي تفكّر في مدى تماسُك قضايا العقل والقول والمعارف، ولا في مدى انطباق أحكامنا عن الأشياء على الأشياء…، ولا في ما هو في هذا المعنى من مسائلَ تقع في مدار الميتافيزيقا والأخلاق والمنطق والمعرفة.

الفلسفة، هنا، أمام موضوعٍ واقعيّ لا يَقْبل التّأمّل ولا النّظرة «الفينومينولوجيّة» ولا النّظر إليه بهواجس وجوديّة. صحيحٌ أنّه موضوع يُجَرَّد، أو يخضع للتّجريد والمَفْهَمة، حتّى يصبح في الإمكان أن يُفكَّر فيه فلسفيّاً؛ ولكنّ تجريدَه قَصْد دَرْسِه لا يذهب بواقعيّته أو يَطْمِسها أو ينال منها شكلاً ما من النّيل، بل يَظَلّ الواقعي فيه يفرض نفسَه على النّاظر إليه بعيون الفلسفة وأدواتها المفهوميّة. يستطيع أيٌّ من المطّلِعين على تاريخ الفكر الفلسفيّ، أو من الدّارسين لمسائلَ فيه أن يتبيّن بنفسه الفارقَ بين فلسفةٍ تدور على أسئلة الميتافيزيقا – وتدور في فلك التّفكير الميتافيزيقي – وفلسفةٍ أخرى للاجتماع والسّياسة.

والفارق هذا ليس بين تياريْن أو مدرستيْن فلسفيّتين، بل فارقٌ حتّى في فلسفة الفيلسوف الواحد. أرسطو كتاب ما بعد الطّبيعة، أو كتاب الطّبيعة، أو المنطق غيرُ أرسطو السّياسيّات. لك أن تقول الشّيءَ عينَه عن أي فيلسوفٍ آخر كَتَبَ في الأخلاق والميتافيزيقا وكتب في الآن نفسِه، في السّياسة: جان جاك روسو، إيمانويل كَنْت، هيغل…إلخ. فيلسوف السّياسة ينسى قليلاً، النّموذج المعياريّ الذي يَسْتحسن أن تكون عليه الدّولة أو السّلطة أو الدّستور أو نظام الحكم، لأنّ تفكيرَهُ يكون مشدوداً إلى واقعٍ سياسيّ قائم قد لا يكون مطابِقاً لِما هو قائم في الذّهن، أو حتّى قريباً منه.

أمّا أن يكون فيلسوف السّياسة ساعياً، أثناء الدّرس والتّفكير، إلى تحليل واقع السّياسة بمفاهيم هي، في المطاف الأخير، تمثُّلات نظريّة مجرَّدة تتجسّد في نموذجٍ ذهنيّ مّا يحمله ذلك المفهوم، فذلك صحيحٌ قطعاً، ولكن من غير أن يغرُب عن البال أنّ النّموذج الذّهنيَّ ذاك مُرَكَّب من مجموعةٍ كبيرة من النّماذج الواقعيّة التي ينصرف الانتباه إلى المشتَرك العامّ بينها الذي يصير سمةً جامعة بين نماذجها المختلفة.

إذا كان اتّصالُ فلسفة السّياسة بالواقع والتّاريخ وأحكامِ التّطوّر والتّحوُّل هو ما يميّزها عن فلسفة الأخلاق، أو فلسفة المعرفة، أو عن الميتافيزيقا؛ أي عن فلسفاتٍ تبحث في «ماهيات» الأشياء «الثّابتة» التي لا يلْحقها تغيير، فإنّ اتّصالَها ذاك بالتّاريخ هو عينُه الذي يفرض على علاقتها بالسّياسة أن تتغيّر كلّما شهِدَ موضوعُها ذاك على شيءٍ من التّغيير. لذلك نُلفي أنْفُسَنَا أمام فلسفاتٍ سياسيّة لا أمام فلسفةٍ سياسيّة واحدة في التّاريخ، تعبّر الواحدةُ منها عن نظامٍ من السّياسة مختلفٍ عن الآخر.

ولكن، لمّا كانت الفلسفة السّياسيّة السّائدة، اليوم، هي الفلسفة الحديثة والمعاصرة، التي اقترنت وجوداً واشتغالاً بنظام الدّولة الحديثة، والتي تَشَبَّع بها الفكرُ الفلسفيّ العربيّ وامتلك أدواتها المفهوميّة؛ ولمّا كان المجال السّياسيّ العربيّ القائم – منذ نشأته غداة الاستقلالات الوطنيّة – لا يُناظِر في التّكوين ولا في نظام الاشتغال المجال السّياسيّ الحديث (في الغرب حيثُ نشأت تلك الفلسفة الحديثة)، تَرَتَّب على ذلك أنّ أدواتنا الفلسفيّة تبدو، في قسمٍ منها، برّانيّةً عن مجالٍ سياسيّ محليّ لم يَعْثُرِ التّفكيرُ فيه بعدُ على عُدّته المعرفيّة الفلسفيّة المناسبة.

شاهد أيضاً