في التاريخ الفلسطيني تحتل النكبة الجزء الأكبر من السردية الفلسطينية، ولعلها المحطة المحورية الأهم في الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني، وفي العادة يستخدم الفلسطينيون مصطلحات، مثل “ما قبل النكبة” و”ما بعد النكبة”، فهي من دون شك الحلقة التي تربط بين تاريخين، الأول جرت أحداثه على أرض فلسطين، والثاني خارجها في الشتات، أو في أجزاء منها خضعت لسيادات مختلفة. كنت من بين ذلك الجيل الذي ولد مباشرة بعد النكبة وبهذا المعنى فإني من الجزء الثاني من التاريخ، بالمناسبة مصطلح النكبة لم يكن قد ترسخ بعد، بل كان السائد سنة الهجرة، وقبل الهجرة وبعد الهجرة، ولم أسمع بمصطلح النكبة إلا لاحقا.
في السنوات الأولى، كان الفقر والعوز وعدم الاستقرار وغياب اليقين هو المسيطر، ومعظم الفلسطينيين أقاموا في المخيمات المنتشرة في دول الشرق الأوسط. والقلة المحظوظة ممن وجدت من يعينها أو كانت قادرة أن تعيش خارج المخيمات وعائلتي كانت من الفئة المحظوظة لكن أحوالنا لم تكن ميسورة، إنما بالكاد كان والدي يوفر لنا قوتنا وملبسنا، وفي السنوات الاولى من طفولتي عشنا في بيت صغير كنا الاخوة والاخوات ننام في غرفة، أما الغرفة الثانية فكانت صالون استقبال الضيوف وهي في الوقت نفسه غرفة نوم الأب والأم، ولم ينتهِ ذلك إلا بعد أن أصبح لنا منزلنا الذي بناه أبي بشق الأنفس.
على أية حال كنت أسمع في طفولتي عن مأساة حلت بأهلي وأقاربي، وكنت أسمع أن لنا بلدا أجبرنا على الرحيل منه، وأن بيتا مريحا وحقولا وحتى كلب الحراسة تركه أهلي خلفهم، والقصة ذاتها كنت أسمعها من العديدين دون أن تكون لي القدرة على ربطها بعضها ببعض لتكون قضية شعب أصبح بلا وطن.
أولى ذكرياتي السياسية كانت أثناء العدوان الثلاثي على مصر في خريف العام 1956، للمرة الأولى شعرت بتوتر، الجميع كانوا من حولي في حالة توتر وترقب، وطلبت السلطات في عمان من الأهالي أن يظللوا نوافذهم باللون الغامق النيلي بحيث لا ينفذ منه النور الى الخارج، كما تم وضع أشرطة لاصقة على الزجاج، وفهمت أن هذا يحمي من شظايا إن وقع انفجار قريب. ومع مرور الوقت أصبح جيلنا يسمع ان رئيسا في مصر اسمه جمال عبد الناصر ينوي تحرير فلسطين، وان الفرج بات قريبا وسنعود الى ديارنا وبيوتنا.
لم أكن أدرك المعنى الحقيقي لكلمة “العودة” التي كان الأهل والأقرباء يرددونها في الأعياد والمناسبات، والتي اختفت بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، بعد هزيمة الجيوش العربية واحتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين، وكأن العودة قد أصبحت أبعد منالا، في نهاية خمسينيات القرن العشرين واجهت حقيقة النكبة عندما وقفت على الأسلاك الشائكة التي تقسم قريتي بيت صفافا إلى شطرين، باعتبارها جزءا من القدس المقسمة، غربية تحتلها إسرائيل، وشرقية كانت ضمن المملكة الأردنية الهاشمية، كما نذهب لرؤية أخي الأكبر الذي بقي في بيت العائلة مع زوجته وأولاده، كنا نراه عبر الأسلاك الشائكة للحظات قبل أن تأتي الشرطة من الجانبين لتطلب منا المغادرة، وقتها رأيت منزل أبي عن بعد دون أن استطيع الوصول اليه.
خطابات عبد الناصر، وخطابات الأحزاب القومية كانت تملأ فضاءات الأمة العربية وتشكل الوعي. لكن الوعي الوطني بدأ التكون مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، والأخبار المتداولة عن منظمات الفدائيين، التي تعمل بالسر. الا ان النقلة في الوعي الوطني حدثت بعد حرب حزيران وانتزاع الثورة الفلسطينية المشهد الاقليمي كله.
جيل ما بعد النكبة رأى في الثورة الفلسطينية وفصائلها الطريق الأقرب للتحرير والعودة، ومن كان مترددا ويفضل الانتظار ليرى، جاءت معركة الكرامة لتحسم موقفه، وكنت أنا واحدا من هؤلاء.
نقلة كبيرة لجيل النكبة وما بعدها، فقد حمل هذا الجيل السلاح مجددا ليحرر فلسطين، وتنقل مع الثورة من ساحة الى اخرى وصولا لحرب العام 1982، عندما نجحت إسرائيل وحلفاؤها، وفي ظل صمت عربي، في اخراج منظمة التحرير من بيروت ولبنان، وفجأة وجد مقاتلو الثورة وكوادرها وقيادتها أنفسهم على بعد آلاف الكيلومترات من فلسطين خارج نطاق دول الطوق العربية.
ولكن ما انعش الأمل مجددا الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الكبرى، انتفاضة الحجارة، التي اندلعت نهاية العام 1987 في الأرض المحتلة، وفي لحظة اعتقد الشعب الفلسطيني فيها انه أقرب من أي وقت مضى من تحقيق مكاسب حقيقية على الأرض، وقامت منظمة التحرير بالتهيئة لقطف ثمار الانتفاضة فأقر المجلس الوطني مشروع السلام الفسطيني في الجزائر في خريف العام 1988، وما ان كادت الثمار تقطف حتى اندلعت ازمة الخليج عندما بادر الرئيس العراقي صدام حسين الى احتلال الكويت.
الآمال تراجعت بعد الهزيمة التي لحقت بالعراق وبات الشرق الأوسط من الناحية العملية في قبضة الولايات المتحدة الأميركية، وتفكك حليف الشعب الفلسطيني على الساحة الدولية، الاتحاد السوفييتي، وفجأة شعرنا وكأننا عدنا إلى نقطة الصفر.
ولكن الشعب الفلسطيني لا يعرف اليأس، بعد النكبة كان المخطط كما قالت غولدا مائير: “إن الكبار يموتون والصغار سوف ينسون”، وهو ما لم يحصل، واليوم الجيل الرابع بعد النكبة يواصل الكفاح، وكلمة “Free Free Palestine” تملأ شوارع العالم.