في خطوة تنطوي على استخفافٍ مروّع بالقانون الدولي واحتقارٍ سافرٍ لهيبة الأمم المتحدة، أقدمت قوّات الاحتلال الإسرائيلي على اقتحام مقر وكالة الأونروا في القدس الشرقية، وإنزال علم المنظمة الدولية ورفع علم الاحتلال مكانه، ومصادرة هواتف موظفين أمميين داخل حرمٍ يتمتّع بحصانة كاملة بموجب الاتفاقيات الدولية. هذا الفعل لا يمكن وصفه إلا بأنه انتهاك متعمّد، مدروس، ووقح، يرمي إلى إهانة الأمم المتحدة وإخضاعها بالقوة المادية، وإرسال رسالة فجّة إلى العالم بأن القوة فوق الشرعية، وأن الاحتلال بات يعتبر نفسه مرجعية القانون بدل أن يكون خاضعاً له.
إن الأونروا ليست مجرد مبنى أو مؤسسة خدماتية؛ بل هي الذاكرة القانونية لقضية اللاجئين الفلسطينيين، والدليل الحي على جريمة الاقتلاع التي ارتكبت عام 1948 وما تلاها من تهجير جماعي لا يزال مستمراً بأشكال مختلفة حتى اللحظة. ومن ثَمّ فإن الاعتداء على الأونروا هو اعتداء على حق العودة نفسه، ومحاولة لطمس الشاهد الأخير الذي ظل واقفاً في وجه محاولات شطب قضية اللاجئين من الوعي الدولي. إن الاحتلال يدرك تماماً أن بقاء الأونروا يعني بقاء الاعتراف الدولي بأن هناك شعباً هُجّر وأرضاً صودرت وجرائم لا تسقط بالتقادم.
والأخطر أن هذه الجريمة تحدث في ظل حرب شرسة على غزة، وموجات نزوح واسعة، وتضييق خانق على الفلسطينيين في القدس والضفة، بينما تعتمد آلاف الأسر على خدمات الأونروا للبقاء على قيد الحياة. إن استهداف الوكالة في هذا التوقيت هو فصل جديد من سياسة التجويع والإخضاع وقطع شرايين الحياة عن شعب محاصر. وما جرى ليس حادثة معزولة، بل يأتي ضمن مسار طويل من محاولات الاحتلال لإفشال الأونروا وتمويلها وتشويه سمعتها وتقييد وجودها داخل الأراضي المحتلة وخارجها.
رفع علم الاحتلال فوق مقر الأمم المتحدة ليس عملاً رمزيًا عابرًا، بل عمل يطعن في صميم النظام الدولي، ويشكّل سابقة خطيرة تعني بكل وضوح أن الاحتلال لم يعد يعترف بوجود سلطة دولية فوقه، ولا يعترف بوجود حصانة أممية تحكم عمل المؤسسات الدولية. وإذا مرّ هذا الفعل دون عقاب صارم ومباشر، فإن الرسالة لجميع الأنظمة المتغوّلة حول العالم ستكون أن بوسع أي قوة محلية أن تقتحم منشأة أممية وتدوس على رموز الأمم المتحدة دون أن تتعرض لأي تبعات. عندها لن يبقى للقانون الدولي معنى، ولن يبقى لهيبة الأمم المتحدة أي وزن.
العالم اليوم أمام اختبار حقيقي: إما أن ينهض للدفاع عن شرعية الأمم المتحدة، أو يترك المؤسسة الدولية تُهان على أيدي قوة احتلال تضرب القانون الدولي في قلبه، ثم تطالب الآخرين باحترامه. إن حماية الأونروا اليوم ليست دفاعاً عن الفلسطينيين فحسب، بل دفاع عن فكرة وجود نظام دولي محكوم بالقانون لا بغلبة السلاح. ومن دون رد دولي رادع، ستتآكل بنية الشرعية الدولية أمام أعيننا، وسندخل مرحلة تصبح فيها الأمم المتحدة مجرد مبنى بلا حصانة وعلم بلا سلطة.
إن صمت المجتمع الدولي على ما جرى يشجّع الاحتلال على مزيدٍ من العربدة السياسية، ويفتح الباب لخرقٍ ممنهج لكل القواعد التي قامت عليها الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وما لم نرَ موقفاً حاسماً يفرض على الاحتلال احترام حصانة المقر وإعادة الوضع القانوني فوراً، فإن العالم بأسره يكون قد منح الاحتلال رخصة مفتوحة لإهانة القانون الدولي كلما شاء.
إن ما جرى ليس حادثاً طارئاً، بل إنذار شديد اللهجة بأن المنظومة الدولية تُختطف أمام العالم، وأن صمت الدول الكبرى هو اشتراك فعلي في جريمة سياسية وقانونية تهدد مستقبل الشرعية الدولية بأسره، وليس مستقبل الفلسطينيين وحدهم






