لم تعد العربدة التي يمارسها المستوطنون في الضفة الغربية مجرد تجاوزات فردية أو أفعال متطرفة كما تحاول حكومة الاحتلال تبريرها أمام العالم، بل أصبحت سياسة ممنهجة ومدروسة تهدف إلى إرهاب الفلسطينيين ودفعهم قسرًا إلى ترك أرضهم. فالمشهد يتكرر يوميًا: إحراق أشجار الزيتون وسرقة المحاصيل الزراعية، إغلاق الطرق والاعتداء على المزارعين، ووصل الأمر إلى حرق آليات مصنع ألبان الجنيدي في بيت ليد قرب طولكرم، وكل ذلك يجري تحت حماية مباشرة من جيش الاحتلال الذي يقف متفرجًا حينًا، ومتواطئًا حينًا آخر، ومتقدمًا لحماية المعتدين في أغلب الأحيان.
هذه الممارسات ليست سوى وجه آخر لسياسة الاستيطان القائمة على القوة والتهجير والتطهير العرقي الصامت. فحين تُحرق شجرة الزيتون، لا يُستهدف محصولٌ أو موسم فقط، بل يُستهدف الوجود الفلسطيني ذاته، لأن تلك الشجرة تمثل الجذر والهوية والذاكرة. وما يجري من اعتداءات متكررة على الأرض والإنسان ليس عفويًا، بل منظَّم ومقصود لخلق واقع جديد يُجبر الفلسطيني على الرحيل ويُكرس الاستيطان كأمر واقع بدعم سياسي وأمني كامل من الحكومة الإسرائيلية.
المطلوب فلسطينيًا أمام هذا الواقع هو موقف موحد وجاد، يتجاوز البيانات وردود الفعل المحدودة. يجب أن تتشكل لجان حماية شعبية في القرى والبلدات القريبة من المستوطنات، لحماية المزارعين والممتلكات، كما يجب على الفصائل والقوى الوطنية والإسلامية أن توحّد خطابها وميدانها في مواجهة عربدة المستوطنين. أما السلطة الفلسطينية فعليها أن تتحرك فورًا لتوثيق كل هذه الجرائم وتقديمها إلى المحكمة الجنائية الدولية ضمن ملفات قانونية مكتملة، دون تردد أو مساومة، فكل تأخير هو ضوء أخضر للاحتلال للاستمرار في جرائمه.
أما دوليًا، فقد آن الأوان للعالم أن ينتقل من مرحلة الإدانة اللفظية إلى مرحلة الفعل الحقيقي. يجب فرض عقوبات على عصابات المستوطنين وشركات الاستيطان، ووضعهم على قوائم الإرهاب العالمي، لأن ما يقومون به هو إرهاب منظم يستهدف المدنيين العزّل. كما يجب على الدول التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان أن تُفعّل قرارات المقاطعة الاقتصادية لمنتجات المستوطنات وأن تدعم المطالبة بتوفير حماية دولية عاجلة للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية.
إن ما يجري في القرى الفلسطينية هو تدمير لبنية الحياة الريفية الفلسطينية التي شكّلت عبر التاريخ روح الصمود الفلسطيني. فالفلاح الذي تُحرق أشجاره يُقتل مرتين: مرة حين يرى تعب سنواته يتحول رمادًا، ومرة حين يُجبر على ترك أرضه. والأطفال الذين يكبرون على مشاهد الحرق والعنف يورثون الخوف بدلاً من الأمان، والنساء اللواتي يحمين بيوتهن يتحملن عبء الاعتداء والقلق الدائم. إنها حرب على الذاكرة وعلى الوجود الإنساني ذاته، تُمارس ببطء وبصمت كي لا يلتفت العالم إليها.
إن هذه العربدة ليست مجرد تجاوز، بل هي إعلان نوايا من دولة الاحتلال التي تستخدم المستوطنين كأداة تنفيذ قذرة لتوسيع رقعة السيطرة وفرض الوقائع بالقوة. لكنها، مهما بلغت من عنف وتطرف، لن تنجح في اقتلاع شعب تجذر في أرضه منذ آلاف السنين. فالأرض التي تُحرق اليوم ستُنبت غدًا إرادة، والشجرة التي تُقتلع ستنمو مكانها عشر شجرات من الصمود والعزيمة.
المطلوب اليوم هو موقف فلسطيني موحد، وعمل عربي جاد، وتحرك دولي مسؤول. فالصمت على جرائم المستوطنين هو مشاركة فيها، والتقاعس عن الرد عليها هو تواطؤ غير مباشر مع الاحتلال. فلسطين اليوم لا تحتاج إلى بيانات الشجب، بل إلى مواقف تُترجم على الأرض؛ لأن ما يُحرق اليوم من زيتون هو ما تبقى من جذور الحرية في وجه الطغيان






