لا يمكن فهم الواقع الفلسطيني عموماً والحالي خصوصاً دون تفكيك الجانب الاقتصادي وانعكاساته على القرار السياسي الفلسطيني، حيث أن الأرقام قد تعطينا مؤشرات عن شكل الواقع، إلا أنها غير كافية لتحليله بكل تفاصيله، تحديداً بعد الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. نحاول من خلال هذا الحوار مع طاهر اللبدي، الباحث في الاقتصاد السياسي حول فلسطين والشرق الأدنى في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (IFPO)، أن نفهم جذور هذه العلاقة والتفاصيل المُخبَّأة في جوانبها، ومدى تأثيرها على المشهد الفلسطيني في الداخل والخارج من جانب اقتصادي-سياسي.
لا شك بأن تغييرات عديدة طرأت على الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية بعد السابع من أكتوبر، دعنا نقدم صورةً عامة للاقتصاد الفلسطيني قبل وبعد هذا التاريخ.
نحن أمام واقع احتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1967، تعرّضت الأرض خلاله لسياسة الاستعمار والاستيطان الإسرائيلي، من سلب الأراضي ونهب الموارد وفرض سياسات اقتصادية، نتج عنها تدمير النسيج الاقتصادي للقطاع الإنتاجي، ما انعكس على تراجع قطاع الزراعة والصناعة في الضفة الغربية وغزة. منذ نكسة 1967 تقلّصت الحركة الاقتصادية في الضفة وغزة، وتتحدث الكثير من التقارير الاقتصادية للمنظمات الدولية عن إفقار للفلسطينيين في آخر عشر سنوات، بعضها يتحدث عن اقتصاد غير قابل للحياة، اقتصاد مرَّ بعملية التنمية المعكوسة، بمعنى بدل أن يكون هناك تنمية للوضع الاقتصادي فإنّ ما يحدث هو العكس. أيضاً تُظهر هذه التقارير أن الاقتصاد الفلسطيني قبل الحرب الإسرائيلية كان أسيراً للاقتصاد الإسرائيلي، بمعنى أنه تابعٌ له، وظهرت نتيجة هذه التبعية عندما بدأت الحرب على غزة بعد عملية السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، حيث زادت إسرائيل الحصار على الضفة الغربية فخنقت اقتصادها. كانت معدلات البطالة قبل الحرب بحدود 13 بالمئة، وهو ليس رقماً قليلاً. وبعد الحرب زادت التقديرات في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 ووصلت حوالي 30 بالمئة في الضفة الغربية. كذلك نشهد انخفاضاً كبيراً في حركة الصناعة والتجارة والسياحة. هذا الخنق، وبهذا الشكل السريع، يشير إلى حجم تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، ويوضح أنه لا يستطيع الخروج من قبضة الاحتلال بأي شكل.
بدأنا الحديث انطلاقاً من 7 أكتوبر، لكن واقع الاقتصاد الفلسطيني له جذوره الممتدة منذ عشرات السنين. كيف يمكننا أن نفهم جذور الأزمة الحالية وعلاقتها بالنظام الاقتصادي الذي أقرّته أوسلو، لو استطعنا اعتبارها نقطةً مفصليةً في تغيير الواقع الفلسطيني؟
نعم. في الحقيقة يُنظَر إلى أوسلو في الأدبيات كمرحلة فصل، بمعنى أن هناك ما قبل أوسلو وما بعدها، وهو صحيح إلى حد ما، لكن من المهم توضيح أن أوسلو لم تغيّر في جوهر العلاقة بين اقتصاد الضفة الغربية وقطاع غزة والاقتصاد الإسرائيلي، ولم تغيّر في في سياسات الاستعمار تجاه الأراضي المحتلة عام 1967، وبالتالي فإنّ الأزمة قائمة من قبل أوسلو. الإشكالية هي التعامل مع الاقتصاد على اعتبار أنه منفصلٌ تماماً عن السياسة، وعلى هذا الأساس أيضاً يقيّم الاقتصاديون أثر الواقع السياسي على الاقتصاد وكأنه شيء منفصل تماماً. المقاربة التي أعتمدُ عليها هي أن الاقتصاد جزء من الصراع القائم على الأرض، وأن الحركة الصهيونية من قبل 1948 كانت تنفّذ أهدافها من خلال الاقتصاد، وهناك 3 محاور نستطيع من خلالها أن نوضح طبيعة الصراع بين إسرائيل وفلسطين: المحور الأول هو الاستبدال، وهو خاص بكل حركات الاستعمار الاستيطاني حول العالم، بمعنى الاستيلاء على الأرض وطرد سكانها، وبالتالي سيطرة الإسرائيلي على الأسواق بكل الجوانب، من العمل والصناعة والإنتاج، وهذه كانت طريقة لإقصاء الفلسطيني خارج المعادلة؛ المحور الثاني هو الاستغلال، عندما أصبح الفلسطيني جزءاً من التركيبة، فإسرائيل لم تستطع طرد كل الفلسطينيين من الأراضي المحتلة عام 48 وأيضاً من أراضي 67، حينها أصبحت إسرائيل مسيطرة على أراضٍ فيها مئات الآلاف من الفلسطينيين، فأصبح السؤال هو كيف ستتعامل مع هذا الوجود، وهذا الوجود قد يكون إيجابياً من ناحية استغلال اليد العاملة الفلسطينية كجزء من حركة الاقتصاد الإسرائيلي؛ المحور الثالث هو القمع ومكافحة التمرد من خلال الاقتصاد، بمعنى أنه في أي لحظة فيها «تمرد» يستطيع الإسرائيلي أن يخنق الاقتصاد الفلسطيني ليعاقب الفلسطيني ويقمعه ويمنعه من أن اتّخاذ أي حركة سياسية مستقلة. هذه المحاور الثلاثة قائمة منذ ما قبل أوسلو واستمرت بعدها، ولذا فإن سيطرة إسرائيل على الاقتصاد الفلسطيني بعد أوسلو استمرت، والنتيجة اليوم هي أن أكثر من 60 بالمئة من الأراضي هي مناطق (C)، أي تحت سيطرة إسرائيل، كما أنها تسيطر على كل الحدود في الضفة وقطاع غزة، وتسيطر على القطاع المصرفي، فحتى البنوك الفلسطينية مرجعيتها البنك المركزي الإسرائيلي والعملة هي العملة الإسرائيلية. وبحسب بروتوكول باريس الاقتصادي، فإسرائيل لها اليد العليا، بالتالي لم تتغير الأمور مع أوسلو. الحقيقة أن الذي تغير هو وجود السلطة الفلسطينية، والسلطة هي «القطاع العام بموظفيه ومشاريعه». المهم أنه أصبح هناك تداخل بين الاقتصادَين الفلسطيني والإسرائيلي بعد أوسلو، والنتيجة أنه من الصعب على الأدبيات الاقتصادية اليوم الحديث أصلاً عن اقتصاد فلسطيني قابل للحياة، ما يجعلنا نفكر أن وجود «اقتصاد فلسطيني» يعني وفق الوضع الراهن فقط وجود مؤسسات فلسطينية تُنتِج إحصاءات وتحاول ترقيم نشاط اقتصادي فلسطيني وكأنه منفصل عن إسرائيل. والحقيقة أن هذه الأرقام تغشنا، فعملياً على الأرض لا يمكن الفصل بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الإسرائيلي، وأكبر مؤشر على ذلك هم العمال الفلسطينيون الذين يعملون في الأراضي المحتلة عام 1948 أو المستوطنات الإسرائيلية الموجودة في الضفة، وهنا نحن نتحدّث بشكل رسمي عن قرابة 180 ألف عامل فلسطيني، والتقديرات تشير إلى أن هذا الرقم من الممكن أن يصل إلى 250 ألف عامل إذا أخذنا في عين الاعتبار العمال الذين يعملون دون تصاريح. إذاً نحو 20-25 بالمئة من اليد العاملة في فلسطين تعمل في الاقتصاد الإسرائيلي، وهذه مؤشرات تظهر التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، وبالتالي أوسلو لم تغير كثيراً في هذه العلاقة.
أعدتنا مرةً أخرى في إجابتك السابقة إلى 7 أكتوبر، فبعد حديثك عن أوسلو وكيف لا يمكن اعتباره «نقطةً فارقة» في الاقتصاد الفلسطيني، فربما نحن لسنا أكيدين اليوم إن كان 7 أكتوبر سيكون نقطة فاصلة اقتصادياً. ما رأيك؟
بعد السابع من أكتوبر نستطيع الحديث عن 3 نقاط رئيسية: الأولى أن إسرائيل زادت الحصار والقيود على حركة البضائع والناس، وضاعفَ أثر هذه القيود تزامُنها مع الاقتحامات وازدياد عنف المستوطنين. كل هذا أدى إلى تراجع الحركة الاقتصادية بشكل كبير؛ والنقطة الثانية هي العمال الفلسطينيون، ففي 7 أكتوبر ألغت إسرائيل تصاريح كل العمال في الضفة، حتى العمال الذين لا يحتاجون إلى تصاريح لم يستطيعوا الوصول إلى أماكن عملهم، وهنا نحن نتحدث عن 180-250 ألف عامل فلسطيني أصبحوا عاطلين عن العمل وانتقلوا للبحث عن عملٍ في اقتصاد مدمر أصلاً؛ والنقطة الثالثة هي إيرادات المقاصّة التي لم تحوّلها إسرائيل للسلطة الفلسطينية، وبالتالي أثّرت على دفع السلطة لرواتب الموظفين ما أدى إلى تراجع الحركة الاقتصادية.
تواجه السلطة الفلسطينية أزمة كبيرة في ما يتعلق بدفع رواتب الموظفين خلال السنوات الأخيرة، والأزمة تتزايد. ما هي الخيارات المطروحة على السلطة الفلسطينية لتمويل سداد الرواتب على الأقل في الفترة القريبة؟
تعتمد السلطة الفلسطينية، بشكلٍ عام، على موارد محدودة، و60 بالمئة تقريباً تأتي من إيرادات المقاصة. عملياً، وبحكم واقع أن السلطة ليس لديها أي سيطرة على حدودها، فكل الضرائب على الإيرادات الفلسطينية تجمعها إسرائيل ثم تسلّمها للسلطة مرة أخرى منقوصةً نسبةً محددةً تعتبرها إسرائيل «مصاريف إدارية». والمقاصة أداة جيدة تستخدمها إسرائيل لمواجهة أي سيناريو لا يتماشى معها. منذ فترة كانت إسرائيل تُنقص من إيرادات المقاصة كل ما يمكن اعتباره أموال تذهب لعائلات الأسرى والشهداء. بعد معركة سيف القدس في أيار (مايو) 2021 زادت هذه السياسات، ومع تراكمها لم تعد السلطة قادرة على دفع الرواتب كاملةً. بالمناسبة عدم قدرة السلطة على دفع رواتب موظفيها ليست جديدة، وحدثت سابقاً خلال حكومة سلام فياض ومستمرة إلى الآن من حينٍ إلى آخر. مع 7 أكتوبر قررت إسرائيل أن تُنقص حصة غزة أيضاً، فرفضت السلطة استلام الأموال المنقوصة، بالتالي تجدّدت الأزمة بين إسرائيل والسلطة وتدخّلت أطراف أوروبية وأميركية. لاحقاً تم الاتفاق على أن إسرائيل لن تدفع أموال المقاصة بشكل مباشر للسلطة، وحولتها إلى بنك في النرويج، والنرويج ممنوع أن تسلمهم للسلطة إلا بقرار إسرائيلي، على اعتبار أنها أموال مجمدة.
يوجد أيضاً الضرائب المحلية كمصدر دخل للسلطة. بعد 7 أكتوبر قلّت هذه الضرائب تأثراً بالحركة الاقتصادية الفلسطينية. أما الجزء المتبقّي المتمثّل بالمساعدات الدولية، فهي منخفضة منذ ما قبل الحرب على غزة، تحديداً في السنوات الخمس الأخيرة، إذ خفّض الممولون الأجانب حجم المساعدات الممنوحة للسلطة، وتحوّلت نسبة كبيرة منها إلى مشاريع تنموية على الأرض. مع 7 أكتوبر لاحظنا أن كثيراً من الممولين صرّحوا بأنهم من الممكن أن يقطعوا المساعدات أو يخففوا منها أكثر، وبالتالي السلطة الفلسطينية في أزمة اقتصادية كبيرة، حتى الرواتب التي تدفعها لموظفيها غير كاملة ومتأخرة قرابة شهرين. اليوم تلجأ السلطة الفلسطينية إلى الاقتراض من البنوك المحلية لتستطيع دفع رواتب موظفيها.
تحدثت عن المساعدات المالية من الدول المانحة، وهي نقطة مهمة ينبغي الوقوف عندها. برأيك كيف نستطيع قراءة التغيرات والتقلبات في دعم الدول المانحة للسلطة الفلسطينية منذ أوسلو وحتى اليوم؟
عندما وُقّعت اتفاقية أوسلو، اتفقت الدول المانحة على ضرورة دعم التنمية الفلسطينية لضمان تراجع احتمال اندلاع انتفاضة أو غيرها من المظاهر الثورية. حينها كانت السلطة الفلسطينية تحصل على قدرٍ كبير من المساعدات قد تصل إلى مليار دولار سنوياً، وعندما نتحدث من منطلق اقتصادي فنسبة هذه المساعدات إلى كل مواطن فلسطيني واحد كانت تعتبر من أعلى النسب في العالم. استمر هذا الواقع خلال أول 15 سنة بعد توقيع أوسلو. ومع الوقت، نجحت السردية الإسرائيلية في توضيح أن السلطة لا تتقيّد بالالتزامات الواقعة عليها، أي الحفاظ على الأمن الإسرائيلي، وبما أن السلطة لا تلتزم، فمن الواضح أن المساعدات تذهب إلى وجهات غير معروفة ويجب أن يكون هناك تشديد على أوجه صرف السلطة، وعليها أن تتحمل مسؤولية نفقاتها. هذا الواقع رسم تغيرات في عقلية الممول، الذي صارت فحوى خطابه للسلطة أنه لا يمكن أن نستمر بالدفع لعقود وأنتم لا تتحملون المسؤولية. نجحت السردية الإٍسرائيلية عند الممول الغربي، وأصبح البنك الدولي يطالب الفلسطينيين إثبات أنهم شفافون في نفقاتهم، ويستطيعون تخفيضها وعليهم وضع ضرائب يدفعها المواطن الفلسطيني ليشارك في الميزانية الفلسطينية. هنا جاء دور سلام فياض الذي جاء بعد الانقسام الفلسطيني في 2006-2007، حاملاً معه خطة من هذه العقلية الغربية التي تريد من الفلسطيني أن يثبت أن هناك شفافية ومسؤولية في الصرف، وكذلك وجوب التخلّص من فكرة أن السلطة يجب أن تكون مدعومة من الخارج بشكل أساسي. هذه الأفكار كانت جيدة نظرياً، لكن طروحاتها كانت تتجاوز فكرة أن النفقات كانت مقابل صمت وتجاوز عن سيطرة إسرائيل بشكل أكبر على الأرض، وتقييد الاقتصاد الفلسطيني أكثر فأكثر، وعدم السماح للمزارعين في الوصول إلى أراضيهم، والسلب المستمر للأراضي، وبالتالي كان التمويل مقابل تقليص البنية الاقتصادية الفلسطينية. هذه السياسات استمرّت ولم يوقفها أحد، ومع مطالبات للفلسطيني بتحمل مسؤولية نفقاته في الوقت نفسه، وفي ظل تقليص إسرائيلي للاقتصاد الفلسطيني؛ هذا طرح جنوني، بمعنى أن الفلسطيني لا يستطيع أن ينشط اقتصادياً، لكن مطلوب منه أن يدفع مقابل النفقات التي تهدف لمنع التمرد. بالتالي منذ حكومة فياض عملت السلطة على خفض نسبة العاملين لديها، واليوم نسبة الرواتب أقل بكثير من النسبة التي كانت قبل 10 سنوات. هذا جزء من خطة تخفيض النفقات، وفي الوقت نفسه زادت السلطة من دخلها المحلي المبني على الضرائب المحلية، والحقيقة أن ذهنية المواطن الفلسطيني تفكر بمنطق أن هذه السلطة لا تحميني من قبضة الإسرائيلي على النشاط الاقتصادي، وهناك فساد واضح ومعروف، فهل تستحق السلطة أن يدفع لها المواطن ضرائب؟ وهل هي دولة مثل باقي الدول ليتحمل المواطن مسؤولية دفع ضرائب لها لا سيما أن المواطن لا يعرف ماذا تنفق وكيف تنفق؟ استمرت هذه الذهنية لدى المواطن الفلسطيني بالازدياد خلال العشر سنوات الأخيرة، وانعكست بشكل واضح من خلال الاحتجاجات، تحديداً الاجتماعية منها، وهذا أمر جديد على المجتمع الفلسطيني الذي كانت تتركز احتجاجاته ضد الاحتلال.
انطلاقاً من كل ما سبق، هل تعتقد أن توقّف تمويل السلطة الفلسطينية أًصبح محتملاً؟ أم أن الغرب لا يمكن أن يترك السلطة الفلسطينية تنهار بشكل كامل؟
التعامل مع السلطة الفلسطينية بالنسبة لكل الأطراف المحيطة، تحديداً الممول الغربي وإسرائيل نفسها، تعامل فيه شيء من الغموض. الغرب وإسرائيل بحاجة لطرف فلسطيني قادر أن يضمن نوعاً من الأمان والاستقرار في المنطقة، وبالمنطق الإسرائيلي والغربي يعني استقرار وأمان لإسرائيل. في الوقت نفسه تستمر إسرائيل في استيطانها وسلبها للأراضي والموارد. أغلب دول الغرب عندما تتعامل مع السلطة لا تتعامل معها على أنها مشروع سيادة أو دولة حتى، ولا يعنيها موضوع الفساد والسلطوية الموجود في واقع حكم السلطة. لا شك أن إسرائيل والغرب لديهم انزعاج من السلطة كونها بشكلها الحالي نتاج للحركة الوطنية الفلسطينية، والحركة الوطنية كانت تطالب بدولة وسيادة، وهذا أكثر ما يزعج إسرائيل. إسرائيل تحتاج شريكاً يؤمن لها استقراراً على الأرض، لكنها لا تريد شريكاً يزعجها بمطالب الدولة والاستقلال والسيادة، ومن هنا نستطيع فهم توجهات إسرائيل من حين لآخر بتقليص أموال المقاصة كورقة ضغط وترهيب. اليوم السلطة شريك مثالي لأنها شريك ضعيف.
بالانتقال إلى الضغوطات الداخلية، هل يمكن أن يؤدي وقف الرواتب لما هو أبعد من تراجع شعبية السلطة الفلسطينية بين قطاع الموظفين، بمعنى تهديد المسؤولين الحكوميين والمتنفذين في السلطة وحتى المستفيدين بشكل أو بآخر؟
حتى اليوم هذه الفئات غير متضررة، نحن أمام كتلة تشكّلت عبر سنوات، وهي كتلة لا تتضرر مع ازدياد الاحتلال والسيطرة الإسرائيلية على الأراضي، تحديداً لأن نشاطهم الاقتصادي لا يتعلق بالزراعة أو الصناعة، بل هو متصل باستهلاك أهل الضفة وغزة، وعلاقتهم مع الاقتصاد الإسرائيلي هي التي تزيد، وبالتالي ليس بالضرورة أن تتضرّر من الاحتلال أو الحرب. لو توقفنا عند طبقة موظفين السلطة، ربما نستطيع القول إنها قد تبقى متماسكة ولن يحدث صراع على خلفية اقتصادية، لكن واقع الضغط على السلطة ربما يشير إلى حدوث شيء ما، تحديداً إنْ تدخّل أحد الأطراف لخلق صراعات داخلية حول من سيكون على رأس المرحلة القادمة، بالتالي الموضوع كله عند الموظفين الذين تقلصت رواتبهم، اقتراناً مع أداء السلطة، والوضع الاقتصادي، كل هذا سيؤثر على ولائهم للسلطة.
إلى جانب موظفي القطاع العام، توجد فئة العمال الفلسطينيين الذين طردتهم إسرائيل من أعمالهم، ومنعتهم من دخول الأراضي المحتلة في 48 بعد السابع من أكتوبر. ما هو تأثير هذا المنع على الاقتصاد الفلسطيني؟ وما مدى قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على تحمّل غياب العمال الفلسطينيين أيضاً؟
إسرائيل حوّلت وجود الفلسطينيين اقتصادياً، بدءاً من الأسواق الفلسطينية التي تستوعب البضائع الإسرائيلية، إلى استغلال الموارد الفلسطينية مثل المياه والغاز واليد العاملة. تاريخياً يوجد عدة مراحل: مرحلة ما قبل الانتفاضة الأولى، حينها كان هناك عدد كبير من الفلسطينيين من غزة والضفة يعملون في أراضي 48 المحتلة، تحديداً في قطاع البناء والزراعة والخدمات؛ وبعد الانتفاضة الأولى وأوسلو انخفض الاعتماد على العمال الفلسطينيين؛ وأخيراً بعد 2010 بدأ يزداد عدد العمال تدريجياً وصولاً لأعلى مستوى تاريخي في 2022-2023، بما يقدر نسبته 180 ألف تصريح عمل، يُضاف إليهم مَن يدخلون دون تصاريح، وبالتالي نتحدث عن نحو 250 ألف عامل فلسطيني في أراضي 48 والمستوطنات. هؤلاء العمال بالنسبة لإسرائيل يد عاملة رخيصة، فهم يتقاضون ما نسبته ثلثي الأجر عن الوظيفة نفسها التي يشغلها إسرائيلي. بالعودة إلى الانتفاضة الأولى حيث كان هناك حركة مقاطعة فلسطينية ودعوات تحضُّ على منع العمل في المصانع الإسرائيلية، ما ترك شعوراً لدى الإسرائيلي بأنه يعتمد بشكل كبير على الفلسطيني في اقتصاده، وبالتالي قد يتحول لورقة ضغط، حاولت إسرائيل خلق بديل من الأفارقة والآسيويين، تبين مع الوقت أن تكلفتهم عالية جداً مقارنة بالفلسطيني الذي يعمل ويعود إلى منزله في الضفة الغربية، حيث يحتاج العمال من غير الفلسطينيين إلى سكن ومناطق خاصة لمنع اختلاطهم مع السكان المحليين، وهذا بسبب النزعات الطبقية الإسرائيلية تجاه العمال. أيضاً هذا العامل سيرسل غالباً أجرته إلى بلده، بعكس الفلسطيني الذي يضخ أموالاً تعود في النهاية إلى الاقتصاد الإسرائيلي. اليوم الأحاديث عن إحضار عمال هنود كبديل عن العمال الفلسطينيين هو مجرد دعاية وفي الغالب لن تنجح. مفهومٌ ضمناً أن إسرائيل تستغل العمال الفلسطينيين، وهذا الاستغلال ليس فقط لدعم الاقتصاد الإسرائيلي، بل هو استغلال لمكافحة التمرد، بمعنى أن العامل الفلسطيني الذي يريد العمل في إسرائيل عليه أن يقدم طلباً للحصول على تصريح، وحتى يحصل عليه يجب أن يكون ملفه الأمني لدى إسرائيل نظيفاً.
منذ السابع من أكتوبر تشهد الضفة الغربية جرائم يومية متصاعدة بحق المزارعين الفلسطينيين الذين يسعون للوصول إلى أراضيهم. ما مدى تأثر هذا القطاع من الناحية الاقتصادية وانعكاسات ذلك على واقع الضفة بشكل عام؟
القطاع الزراعي هو المتضرر الأسرع. المزارع إن لم يستطع الذهاب إلى أرضه سيكون الضرر كبيراً في اللحظة الراهنة وما يليها. تاريخياً كان قطاع الزراعة من أكثر القطاعات المتأثرة بالتوترات لأنه يتصل بالأرض والمياه التي تستهدفها إسرائيل، وفي آخر 30 سنة انخفضت الأراضي التي تُمارس عليها الفلاحة بشكلٍ كبير في الضفة الغربية، وتقلّصت المساحات المزروعة واقتربت من المدن، وهناك أيضاً مساحات عديدة لا يصلها المزارع بسبب الخطورة أو نتيجة تحويلها إلى مناطق عسكرية أو مستوطنات تسيطر عليها إسرائيل.