فويرباخ وأنسنة العقل.

د. عدنان عويّد

كان “لودفيغ فويرباخ” فيلسوفاً ألمانيّاً أنثروبولوجيّاً/أناسيّاً مشهوراً وخاصة بكتابه “جوهر المسيحيّة”، الذي تضمن نقده للمسيحيّة، حيث كان له تأثّيراً كبيراً للغاية بأجيال من المفكرين اللاحقين، بما فيهم “كارل ماركس، وفريدريك أنجلز، وريتشارد فاغنر، وفريدريك نيتشه, أو ما عرف بـ “الهيجليين الشباب”. وهو أيضاً من دعا إلى الليبراليّة والماديّة, التي عرفها الماركسيون بالماديّة الساذجة أو المبتذلة, كونها اهتمت بنظرية انعكاس الواقع بالفكر, ولم تهتم أو يلفت انتباهها إلى مسألة الأنثروبولوجيا, وبخاصة المسألة الطبقيّة في الوجود الاجتماعي. (1). الويكيبيديا.

أهم أفكار فويرباخ:

إذا كان هيجل قد عزل بفكرته المطلقة العقل أو الفكر عن الواقع.. عن حياة الإنسان, عن نشاطه الحسي ومتطلباته, فإن تلاميذه من “الهيجليين الشباب”, ومنهم “فويرباخ”, فقد انطلق برؤية فلسفيّة جديدة, اتخذت من (الحس) منطلقاً لها. حيث يرى “فويرباخ” أن أركان الحس – السمع البصر الذوق الشم اللمس..الخ – هي أركان الفلسفة. فالفلسفة تنطلق من الإنسان, والإنسان وحده هو الذات الحقيقيّة للعقل. وهو أيضاً نتاج الطبيعة.

إن البرهنة على أن شيئاً ما موجود، معناه أن هذا الشيء لا يمكن أن يكون شيئاً مفكّراً فقط, أي إن البرهان على وجوده لا يمكن استنباطه من الفكر ذاته بشكل مجرد. فلا بد أن يأتي الوجود ليُضاف إلى موضوع الفكر. فما هو هذا الشيء؟, يقول “فويرباخ” في كتابه (فلسفة المستقبل): لكي تتفلسف ينبغي ألا تفصل الفيلسوف فيك عن الإنسان. أي لا تفكر بصفتك مفكراً فحسب، أي لا تفكر ضمن إمكان منتزع من كليّة الكائن البشري الحقيقي المعزول لذاته. بل فكر بصفتك كائناً حيّاً وحقيقيّاً، معرضّاً لأمواج محيط العالم القادرة على إحيائك وعلى مدك بنسغ الحياة. لا تفكر في فراغ التجريد وكأنك واحد معزول، أو عاهل مطلق، أو إله لا مبال نفى نفسه خارج العالم. فكر بما يمكنك أن تضمن لأفكارك أن تكون أساساً لوحدة الفكر والكينونة, أي الوجود. فالعالم لا يمكن أن يكون مفتوحاً على مصاريعه, إلا إزاء عقل متفتح, والحواس وحدها هي نوافذ العقل.. (2).

من هذا المنطلق الأناسي نستطيع  أن نقول: إن هذه الأفكار “الفويرباخيّة”, هي طبعاً ما جعل مؤرخي الفلسفة يقولون دائماً إن فلسفة “فويرباخ”، على علاتها، فإن أهميتها الأساسيّة والكبرى تَكْمُنُ في أن الإنسان هو المبدأ الأساس فيها. لأن القانون الأسمى لعالم الإنسان يتطلع إلى خير الإنسان بالذات. وهذا يعني أن “فويرباخ” وضع المبدأ الأنثروبولوجي/ الأناسي في تناقض تام مع المبدأ الميتافيزيقي القديم. ولعل هذا ما أثار دائماً حماسة المفكرين الشباب لأفكار “فويرباخ”، قبل أن يتقدم بهم العمر ويجدوا أنفسهم مدفوعين بالتدريج بعيداً من مادّيته الحسيّة الساذجة. وهنا يكمن، أن ندرك، جوهر عبارة إنغلز: «لقد كنا جميعاً في وقت من الأوقات فويرباخيين». ومن هذا المنطلق للعقل الأناسيّ في التعامل مع معطيات الحياة, عارض “فويرباخ” الفهم المثالي للفكر على أنه جوهر موجود خارج الإنسان والطبيعة. فهو يؤكد أن علاقة الفكر بالوجود هي في الوقت ذاته ماهيّة الإنسان, لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفكر, لذلك فعلى الفلسفة كي تجيب على مسألة علاقة الفكر بالواقع / بالوجود, يجب أن تكون فلسفة أنثروبولوجيّة. أي طريق عمل  يشتغل على  الإنسان في وجوده ونشاطه, ففي هذا الوجود والنشاط تُحل مسألة العقلي والوقعي معا.(3). إن هذا المنطلق الأناسي صحيح من حيث المبدأ, إلا أنه يظل فهماً مبتسراً, كونه لا يأخذ بعين الاعتبار البعد الاجتماعي في تناقضاته وصراعاته الطبقيّة, بل ظل الإنسان الفرد عبر أحاسيسه الفرديّة, أو بعلاقاته الفيزيولوجية هو من يحدد الفكر, أو يفرز الفكر كما يفرز الجلد مادة الأملاح.

العلاقة الفيزيولوجيّة مع الفكر:

إن العلوم الفيزيولوجيّة كما يقول “فويرباخ”, تظهر العلاقة العضويّة التي تربط الفكر بالعمليات الماديّة التي تجري في جسم الإنسان من خلال الإدراك الحسي للعالم الخارجي. فالإنسان (الفرد) عنده كما بينا في موقع سابق لا ينفصل عن الطبيعة, لذلك من الخطأ معارضة أو فصل الطبيعة عن عالم الإنسان الروحي, باعتباره – أي عالم الإنسان الروحي – كما يعتقدون واقعاً قائماً بذاته وهو أعلى وأسمى من الطبيعة.

إن السمة المميزة لماديّة “فويرباخ” تكمن في نفي ثنائيّة الجسم والروح, وتؤكد على الاعتراف وضرورة البرهان على صحة الموضوعة الماديّة في وحدة الروح والبدن.. الذاتي والموضوعي.. النفسي والفيزيائي.. الفكر والوجود. (4).

أنثروبولوجيا فويرباخ:

هي منهج في العمل والفكر, لا ترمي إلى طرح معين للمسألة الأساسيّة في الفلسفة, فالمبدأ الأساس لها, يقوم في رأي “فويرباخ” على ( التفسير العلمي للوعي الاجتماعي), الذي يرى فيه انعكاساً لماهيّة الإنسان الفيزيولوجيّة. ولكن ما هي هذه الماهيّة؟. إنها قبل كل شيء حساسيّة… إنها حياة القلب والعقل .. ومختلف الانفعالات والعواطف الإنسانيّة.. انفعالات الفرد الذي يحب ويتعذب ويتوق إلى السعادة. وهكذا يدرس أشكال الوعي الاجتماعي المختلفة, ومنها الوعي الدينيّ من وجهة نظر المحتوى الحياتي الداخل فيه الدين ذاته. أي اعتبار الوعي الدينيّ جزءاً من وعي الناس في حياتهم. وبذلك تجاوز فويرباخ رؤية الفلاسفة المثاليين ومنهم اللاهوتيين الذين اعتبروا الدين مجموعة من التصورات الخياليّة, وهو خال من أي مضمون واقعي. لذلك هو يردُّ الأمورَ الخارقة للطبيعة إلى الطبيعة ذاتها.. يرد الخيالي إلى الواقعي .. والفوق محسوس إلى المحسوس. وفي ذلك تكون ميزته الأنثروبولوجيّة أيضاً كما بينا أعلاه.

إن الأنثروبولوجيا عند “فويرباخ”, انطوت على بدايات الفهم (المادي للتاريخ), و خاصة محاولة تفسير الدين تفسيراً ماديّاً باعتباره انعكاساً للحياة الواقعيّة. ولكن هذه الحياة الواقعيّة هي تماماً كماهيّة الإنسان, الأمر الذي جعل فويرباخ يفهما فهما مجرداً خارج ارتباطها بعلاقات اجتماعيّة تاريخيّة معينة, كانقسام المجتمع إلى طبقات وغيرها, لذلك هو فقط يركز على الطابع الحسي للإنسان. أي الطابع الحسي للنشاط الإنساني.. على الوحدة الأنثربولوجيّة لجميع البشر كأفراد. مبتعداً عن العلاقات الداخليّة في المجتمع التي تولد بسبب طبيعة استغلال المالك للمنتج جملة واسعة من التناقضات والصراعات بين مكونات المجتمع, واعتبارها هي من يؤدي إلى تلك التحولات العميقة في بنية حياة الفرد والدولة والمجتمع. (5).

علاقة الفلسفة بالدين عند فويرباخ:

إن الدين يَعِدُ الإنسان بالنجاة بعد الموت, بينما الفلسفة مدعوة لتحقيقي ما يعد به الدين على الأرض. إن على الفلسفة أن تحل محل الدين لتعطي الإنسان بدلاً من السلوى وانهار الخمر والعسل وحور العين الوهميّة, القدرة على معرفة الواقع وإمكانياته الحقيقيّة كإنسان كي يبلغ السعادة. (6).

نقد فويرباخ للفلسفة المثاليّة:

تقوم هذه الفلسفة المثاليّة بعمومها على محاولة فلاسفتها المثاليين, اشتقاق وجود العالم الخارجي أو الطبيعة من الفكر, أو الوعي, أو الحدْس, أو التأمل أو قوى من خارج الطبيعة. وعلى هذا التوجه المثاليّ, نرى الفلسفة المثاليّة التأمليّة تنفي وجود الطبيعي بشكل مستقل عن الوعي, لأنها تُنَصِبُ فوق الطبيعة روحاً خارقة القدرة.

إن المثاليّة ليست التسليم المادي بوجود العالم الخارجي, بل في تأكيدها على الحل المثالي  للمسألة الأساس للفلسفة, وذلك من خلال اعتماد الحل المثالي على الحجج النظريّة, ومنها البرهنة على صحة النظرة الدينيّة إلى العالم .

إن المثاليّة لا تنطلق من الواقع, بل تصرف نظرها عنه, دون أي أساس من المعطيات الحسيّة, أي تصرف نظرها عن إدراك الأشياء الواقعيّة المدركة بواسطة الحس والتجربّة.

إن المثاليّة تقول بوجود أشياء في ذاتها مستعصية على الفهم أو المعرفة, وهذا يدخلها في اللاأدرية, التي تقوم في أساسها على هذا التجريد المثالي ذاته. أي على التغاضي التأملي عن كل ما ندركه حسياً.

ملاك القول: إن الفلسفة المثاليّة ليست إلا لاهوتاً معقلناً, أو تأمليّاً. فالذين يتحدثون عن عقل مطلق بأنه هو من يقوم بتحديد الوجود بشكل خفي, إنهم لا يفعلون في حقيقة أمرهم إلا عرض الشعور الذاتي المثالي بديلاً عن الله, وخلق العالم بشكل أكثر دقة وفقاً لتصورات ذاتية محض. ومع ذلك علينا أن نميز بين الفلسفة المثاليّة التأمليّة وبين اللاهوت. فالتأويل العقلاني للدين من قبل المثاليين, ليس أكثر من استنتاجات منطقيّة ستؤدي إلى تناقض صريح مع العقائد الدينيّة التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تتفق مع العلم والعقل والمنطق.

إن التأليهيّة تبين لنا, أن الله ليس أكثر من كائن حسيّ أو شخصيّة موجودة خارج العالم. أما الفلسفة التأمليّة فتحول الله إلى روح لا شخصاني. أي هو الماهيّة الباطنيّة للواقع ذاته. وهكذا تمهد الفلسفة المثاليّة التأمليّة الطريق إلى وحدة الوجود, أي مطابقة الله مع الواقع/ الطبيعة. وبالتالي إلى نفي التأليهيّة.(7).

كاتب وباحث من سوريّة

d.owaid333d@gmail.co

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- الويكيبيديا. بتصرف.

2- مبادىء فلسفة المستقبل» لفيورباخ: الإنسان دائماً وأبداً – موقع العربيّة – ابراهيم العريس. بتصرف.

3- المرجع نفسه. بتصرف.

4- للاستزادة في ذلك يراجع كتاب تاريخ الفلسفة – مجموعة من الكتاب السوفييت – إصدار دار الجماهير الشعبيّة –  دمشق – تعريب توفيق سلوم – مراجعة د. خضر زكريا. 1971. ص447 وما بعد.

5- ما بعد الهيجلية: فويرباخ أنموذجا – موقع مومنون بلاد حدود. بتصرف.

6- للاستزادة في معرفة علاقة الفلسفة بالدين تراجع الدراسة القيمة – ما بعد الهيجلية: فويرباخ أنموذجا – في موقع مومنون بلا حدود.

7-  للاستزادة في ذلك يراجع كتاب تاريخ الفلسفة – مجموعة من الكتاب السوفييت – مرجع سابق. ص447 وما بعد.

 

 

شاهد أيضاً