قراءة في مسألتي حل الدولة الواحدة وحل الدولتين

عبدالكريم عويضة

لا شك أن موضوعي “حل الدولة الواحدة” و”حل الدولتين” يُطرح بشكل دائم من قبل الفلسطينيين أو مناصريهم على اختلاف مشاربهم، ويثير الكثير من الجدل. وقد تعددت الآراء حول ماهية الخيار الأمثل، فلكل خيار مريديه ومنظّروه، وهذا ما يجعل من الضروري، بين الحين والآخر، أن تكون هناك نظرة فاحصة لهذين الخيارين، للنظر في أيهما أكثر قابلية للتطبيق. وعليه، سأحاول أن أتطرق إلى هذا الموضوع بنوع من التجرد والواقعية.

سأتناول أولاً حل الدولة الواحدة، حيث ينقسم أنصار هذا الحل إلى فئتين: الأولى تنادي بدولة ديمقراطية لكل مواطنيها على كامل أرض فلسطين التاريخية، على أساس أن يتم طرد اليهود وإعادتهم إلى البلدان التي أتوا منها، وبالتالي تعود فلسطين لأهلها وتصبح دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها. وبنظرة سريعة لما تطرحه هذه الفئة، نرى أنه يعبّر عن نظرة قاصرة للأحداث والمعطيات على الأرض، وأحلام مستحيلة التحقق في ظل معادلات القوة الحالية، وما نشأ من تحولات سياسية واجتماعية وغيرها خلال العقود السابقة.

أما الفئة الثانية، والتي تقترب في مفهومها مما حدث في جنوب أفريقيا، فترى أن تكون هناك دولة ديمقراطية واحدة تتساوى فيها حقوق جميع مواطنيها من الفلسطينيين والإسرائيليين. وهذا يطرح إشكاليات جوهرية تتعلق بالبنية والتركيب السكاني لهؤلاء المواطنين، والذي لا يشبه نموذج جنوب أفريقيا، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، وإن كان يتقاطع معه في بعض الجوانب. لماذا؟ في نموذج جنوب أفريقيا، كانت هناك أقلية من البيض تسيطر على أغلبية من السكان الأصليين من السود، وكانت تلك الأقلية تطبق نظام فصل عنصري على الأغلبية، الأمر الذي تحول لاحقاً إلى نضال جدي لإسقاط ذلك النظام العنصري البغيض، عبر حشد دعم دولي شاركت فيه كل القوى التقدمية في العالم، للتخلص من ذلك النظام عبر حصاره وعزله من خلال ضغط شعبي عالمي كبير. وقد أتى ذلك في ظل متغيرات دولية مواتية، في وقت كانت فيه أوروبا والعالم يشهدان تحولات كبيرة في مسار تعزيز قيم العدل والمساواة ورفض العنصرية. وعليه، تم تفكيك هذا النظام من خلال قلب الصورة، عبر عملية سياسية أدّت إلى تمكين الأغلبية من الوصول إلى الحكم مع الحفاظ على حقوق الأقلية. ولا بد من القول إن هذا التحول جاء بعد أن انحازت الولايات المتحدة الأمريكية للأغلبية الدولية، وبذلك حصل التحول الذي أدى إلى نموذج جنوب أفريقيا الحالي.

أما فيما يتعلق بفلسطين، فالموضوع مختلف، حيث توجد الآن مجموعتان سكانيتان متساويتان تقريبًا من حيث التعداد، تقطنان الأراضي الواقعة ما بين النهر والبحر، وكذلك فيما يتعلق بمغتربيها. فالمجموعة الأولى، وهي الفلسطينيون، أي السكان الأصليون لهذه البقعة الجغرافية، نرى أنهم شعب متعلم، لديه إمكانيات كبيرة قادرة على إحداث نقلة نوعية إذا ما أتيحت له الفرصة، ولديه تشبث بأرضه وثقافته وإرثه الحضاري، ويطوّر من أدوات صموده بشكل إعجازي. لكنه في الوقت نفسه شعب منقسم، لا يحمل الفكر ذاته أو الرؤية ذاتها فيما يتعلق بقضيته الرئيسية، شعب أنهكته المغامرات العسكرية والسياسية والإيديولوجيات المختلفة.

أما المجموعة الثانية، أي الإسرائيليون، فهم شعب شبه متحد حول مفهوم العدو المشترك وعقدة البقاء والخوف من الفناء. كما أنه شعب متطور تكنولوجيًا، لديه قدرات عسكرية هائلة، ووضع اقتصادي قادر على مواجهة الصعاب، والأهم أن لديه دعمًا هائلًا من الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول العظمى، في مجالات الإعلام والتبادل التجاري والعسكري وغيرها من الأمور التي تتشابك فيها مصالح تلك الدول مع إسرائيل، مما يجعل تطبيق نموذج الحصار الاقتصادي والثقافي وغيره، الذي استُعمل في نموذج جنوب أفريقيا، من الصعوبة بمكان. وهذا رأيناه في حركة المقاطعة التي تعمل منذ أكثر من عشرين عامًا، والتي تحقق نجاحات كبيرة، لكنها تبقى غير كافية لإحداث التحول المطلوب.

وهنا يجب أن نطرح الفرضية التالية: إذا أدّت كل الجهود المبذولة إلى موافقة الطرفين على حل الدولة الواحدة، فإن أسئلة بديهية ستظهر نتيجة لذلك، منها على سبيل المثال: ماذا سيكون اسم الدولة الواحدة؟ فلسطين أم إسرائيل؟ وهل سيقبل أحد الطرفين بالتنازل في هذا الموضوع؟ أم سيتم اختيار اسم جديد للدولة؟ ماذا سيكون علمها؟ علم فلسطين أم علم إسرائيل؟ أم أن علمها سيدمج بين العلمين؟ وهل ستقبل إحدى المجموعتين التنازل للأخرى؟ وعليه، فإن الإجابة عن هذه الأسئلة البسيطة، قبل الدخول في أسئلة أعمق تشمل البنية السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، تعتبر في وجهة نظري صعبة جدًا، إن لم أقل مستحيلة. فقد جرت مناقشات فلسطينية كثيرة حول هذا الموضوع، خصوصًا في حقبة السبعينات والثمانينات، وكان هناك متحمسون لهذا الخيار، وخصوصًا من اليسار الفلسطيني، لدرجة أن أحد المفكرين طرح فعليًا أن يُدمج العلم الجديد بألوان العلمين، وأن تُستبدل النجمة السداسية بنجمة ثمانية، وأيضًا مقترح الرئيس الأسبق معمر القذافي فيما يتعلق بالاسم، والذي اقترح أن تُسمى الدولة “إسراطين”.

ولكن، أنا كمواطن فلسطيني عشت حياتي وكرّستها من أجل أن تكون هناك دولة اسمها فلسطين، وكذلك غيري من ملايين أبناء هذا الشعب، كيف لنا أن نقبل بغير ذلك؟ وعليه، فإنني أجد أن هذا الخيار مستحيل التحقيق، على الأقل في الوقت الحالي بظروفه ومعطياته، وإن كل من ينادي بهذا الحل لا يرون الصعوبات الكبيرة المتمثلة فيه، وإنما ينغمسون في حالة من الوهم المرتبط بما حدث في جنوب أفريقيا، وأيضًا في إطار القضاء على الإمبريالية أو الرأسمالية أو الهيمنة الأميركية، وما إلى ذلك من التوجهات اليسارية، ممن يرون في هذه القضية تمثيلًا حقيقيًا لنضالهم المشروع في تحقيق ما يحلمون به. لكن الحالة هنا مختلفة تمامًا، رغم وجود بعض التشابه في السياسات العنصرية وغيرها من الممارسات بين النظامين. ويجب ألا ننسى أيضًا حالة الكره والحقد الشديدين التي ولدتها التجارب السابقة بين المجموعتين، بما في ذلك أحداث 7 أكتوبر وما تلاها، والتي تحتاج لعقود طويلة من العمل الجاد للعودة إلى مناخ من شأنه أن يخلق حالة من القبول بالآخر، وتجاوز ما حدث.

أما حل الدولتين، فهو يعتبر، من وجهة نظري، الخيار الأمثل والعملي والقابل للتحقيق في هذا الوقت. فقد تم العمل عليه منذ فترة طويلة، حيث وصلت التفاهمات إبان عهد الرئيس كلينتون في كامب ديفيد إلى الاتفاق على ما يقرب من 90% من المواضيع المتعلقة بالحل النهائي، وتمت متابعة باقي التفاصيل في محادثات طابا 1 وطابا 2. وعليه، يمكن القول إنه قابل للتحقيق وفي زمن قياسي، بعد انضمام الولايات المتحدة مؤخرًا لهذا الخيار، وهذا ما لا يتوفر في موضوع حل الدولة الواحدة الآن. هذا الحل سيتم بمقتضاه الفصل بين المجموعتين، ومنحهما استقلالية في اختيار طريقة حياتهما وسياستهما الداخلية بما يتوافق مع تراثهما وثقافتهما. وهو الأمر الذي قد يؤدي، بعد عمل مكثف على تهيئة مناخ مناسب بين الأجيال الجديدة، إلى حل الدولة الواحدة ولكن بمفهوم مختلف، على غرار علاقات الاتحاد الأوروبي، أو كاتحاد فيدرالي أو كونفدرالي مثلًا. ولكن، بعد أن يتحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه، ويقيم دولته المعترف بها من قبل دولة إسرائيل ذاتها، وينمّي من قدراته ويتّحد، ويصبح قادرًا على الدخول في تلك المعادلة من باب المساواة في القوة، حينها يمكن القول إن هذا قد يحقق للأجيال المقبلة الاستقرار، ولكن في إطار استقرار إقليمي أوسع، ودون إلغاء خصوصيات الشعبين في مختلف المجالات. حينها فقط، يمكن القول إن ذلك قد يكون تحقيقًا واقعيًا لحل الدولة الواحدة.