ليس من اليسير الإحاطة بتجربة المفكرين العرب الذين انخرطوا في العملين الفكري والسياسي، وسعوا إلى بناء خط فكري واضح ومتماسك في سياقات شديدة الاضطراب. فالكتابات العربية الحديثة تكشف تعدّد الموضوعات وتباين مستويات المعالجة، بين ما هو موضوعي مرتبط بسياق الواقع، وما هو مجرّد أو متعالٍ عنه. وقد تأثر جزء كبير من هذا الإنتاج بخلفيات سياسية مباشرة، إذ كان كثير من المفكرين منتمين إلى أحزاب أو متفاعلين مع صراعات سياسية كبرى في العالم العربي خلال القرن العشرين. كذلك لعبوا دوراً في العمل الثقافي المؤسسي من خلال تأسيس مجلات وهيئات ثقافية، ما جعل أعمالهم تتقاطع بين السياسي والفكري في آن واحد.
لفهم أثر هؤلاء المفكرين لا بد من اختيار زاوية محددة، وهنا يبرز محوران كبيران شكّلا أساس مشروعهم: العقلانية و التاريخ. العقلانية كانت خياراً فلسفياً مضاداً للنزعات الوضعية الصرف وللتجريد الفلسفي المعزول، أما التاريخ فكان منطلقاً لفهم أزمات الواقع العربي، بحكم انتماء عدد من هؤلاء المفكرين للماركسية أو للتيارات التاريخانية.
برز في هذا السياق مفكرون عرب تركوا أثراً عميقاً في تشكيل الوعي النقدي العربي، مثل إلياس مرقص الذي سعى إلى إيجاد صيغة توفيقية بين الماركسية والفكر القومي العربي، و عبد الله العروي الذي أسّس مشروعه على التاريخانية الجديدة، و ياسين الحافظ الذي انشغل بتعريب الماركسية وجعلها منهجاً لفهم المجتمع العربي وتغييره. هؤلاء لم يتعاملوا مع الماركسية كأيديولوجيا جامدة، بل بوصفها أداة تاريخية نقدية قابلة للتطوير، واتخذوا من اللحظة العربية المتأزمة ساحة لإعادة التفكير في شروط النهضة والتقدم.
هذا التحوّل تمّ في مرحلة كانت فيها الكتابة الفلسفية العربية قبل الستينيات ذات طابع مدرسي (تلقيني)، تعتمد في الغالب على التلخيص لمدارس فلسفية غربية أو على إعادة إنتاج التراث دون ابتكار. لذلك شكّلت أعمال هؤلاء المفكرين انتقالاً إلى مستوى آخر من التفكير، حيث أصبح السؤال الفلسفي مرتبطاً مباشرة بأسئلة الحاضر العربي، لا بأسئلة الميتافيزيقا التقليدية. كانت الفلسفة لديهم مرآة للتاريخ، ومفتاحاً لإعادة فهمه وتفكيكه، بعيداً عن الجمود العقائدي أو الانبهار بالغرب.
وقد اعتمد هؤلاء المفكرون على تراث فلسفي ماركسي واسع، من ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي إلى غرامشي ولوكاش وروزا لوكسمبورغ وغيرهم، ولكن تعاملهم مع هذا التراث لم يكن ترديداً حرفياً، بل محاولة لـ تبيئته في الواقع العربي. هذا ما تجلّى أيضاً في أعمال مفكرين مثل سمير أمين، الذي طرح مفهوم المركزية الأوروبية واشتغل على نظريات التبعية، و مهدي عامل الذي سعى إلى تأسيس ممارسة معرفية عربية تُخرج الفكر العربي من أسر الأدلجة الجاهزة.
وقد ظهر إلى جانب هؤلاء مفكرون آخرون ينتمون إلى التيار الماركسي العربي مثل: ماهر الشريف، محمد إبراهيم نقد، محمد دكروب، معين بسيسو وغيرهم، ممن أسهموا في توسيع دائرة الحوار بين الماركسية والواقع العربي، وفي نقد الفكر القومي التقليدي وطرحه في ضوء شروط اجتماعية واقتصادية جديدة.
الجامع بين هؤلاء جميعاً كان الحسّ التاريخي الذي وجّه أعمالهم. لقد حاولوا الانتقال من التفسير إلى التغيير، ومن التبعية للغرب إلى التفاعل النقدي معه، مؤمنين بأن تاريخ الفلسفة تاريخٌ إنساني كوني، وأن الوعي العربي قادر على الإسهام فيه دون شعور بالنقص أو ادعاء تفوق. لذلك جاءت نصوصهم محمّلة بالجدل النقدي، تسعى إلى فهم مظاهر الأزمة العربية: تأخر مشروع النهضة، هشاشة الدولة الوطنية، غياب الحرية، أزمة التنمية، وبنية الأنظمة السياسية العربية.
كما ظهر في هذه الحقبة مفكرون مؤثرون مثل هشام جعيط و محمد عابد الجابري و محمد أركون، الذين أعادوا قراءة التراث العربي الإسلامي بمنهج نقدي جديد يربط بين العقلانية والتاريخ والإنسية، محاولين تأسيس فكر عربي حديث ينتمي إلى عصره لا إلى ماضيه.
إنّ أهمية هذا المشروع الفكري العربي تكمن في كونه سجالاً مفتوحاً حول سؤال النهضة: لماذا تخلّف العرب عن ركب الحداثة؟ وما الشروط التاريخية والمعرفية لتجاوز الأزمة؟ وقد أجمع هؤلاء على أن العقلانية النقدية شرط أولي لأي تحول في بنية الفكر العربي، وأن استعادة الفلسفة بوصفها أداة تحليل لا مجرد سرد تاريخي، ضرورة لفهم المأزق العربي.
لم يتجه الفكر العربي الحديث نحو مسائل الميتافيزيقا كما فعلت الفلسفات التقليدية، بل نحو التاريخ، نحو الزمن الفعلي الذي تتشكل فيه المجتمعات والدول. ومن خلال هذا التركيز على التاريخ، أعاد المفكرون النظر في مفاهيم القومية العربية، وموقعها بين وحدة الأمة وتجزئتها، بين تحرير الإرادة وتكريس الاستبداد. واستفادوا من الماركسية لا بصفتها نظرية اقتصادية فقط، بل بوصفها رؤية للعالم، ولعلاقة الإنسان بالتاريخ، وللصراع الاجتماعي الذي ينتج البنى السياسية والثقافية.
إنّ مراجعة أعمال هؤلاء المفكرين ضرورة اليوم لفهم جذور الأزمة العربية. فقد أسهموا في تعميق الفكر النقدي، وفي بناء علاقة جديدة بين السياسة والفلسفة والتاريخ. لقد حاولوا الإمساك باللحظة العربية من خلال أدوات مفهومية صلبة، وفتحوا الطريق أمام قراءة عربية للحداثة، لا مجرد استهلاكها أو استيرادها.
وفي النهاية، يتأكد أن مشروع عقلنة الواقع العربي كان مشروعاً فلسفياً وسياسياً في آن واحد. هدف إلى فتح أفق للتفكير في التاريخ، وفي شروط التحرر، وفي إمكان تأسيس نهضة عربية على قاعدة العقل والحرية والعمل. هذه المساهمات، رغم اختلاف منطلقاتها، تُشكّل مادة غنية لمواصلة الجدل حول مستقبل الفكر العربي، وحدود قدرته على تجاوز المأزق التاريخي الذي ما زال يلقي بظلاله على حاضرنا السياسي والثقافي.








