أمريكا… تحول السياسة بتحول المصالح

لطفي العبيدي

ذرائع الإدارة الأمريكية الواهية، وادعاءاتها بالتزام شرعة حقوق الإنسان التي اتخذت منها هدفا معلنا وباتت تقود الحروب الاقتصادية والثقافية والعسكرية، وتجيّش أوروبا وحلفاءها للحرب تحت راية هذا الهدف، أصبحت مثيرة للسخرية فعلا، بمجرد تكرارها والتصريح بها. الفلسطينيون الذين يمتلكون حقوقا سليبة، لأن معاناتهم تسبب حالة من عدم الاستقرار، هذه المعاناة المستمرة هي مسؤولية أمريكا بالدرجة الأولى، فالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تقتات وتتقوى على أوهام تخفي تحتها سياسة تولي كل الأهمية لمصالحها التي تتعارض مع الحقيقة الموضوعية للقضايا المعلنة التي تتسع اتساع «سراب الصحارى» في المنطقة.
قام ساسة الإدارة الأمريكية على رؤية سياسة استراتيجية مفادها أن الطبقات الديكتاتورية هي النموذج المفضل، بغض النظر عن سلوكياتها الوحشية، فهي تحظى بشرف واحترام الإدارة الأمريكية، ما دامت هذه الأنظمة تخدم مصالح الولايات المتحدة. هل من مصلحة واشنطن حقا جلب الاستقرار إلى أفغانستان مثلا؟ بالطبع لا، لأنهم إذا ما سمحوا بدخول الأموال، فإن ذلك سيعني دعم محور الصين وروسيا وباكستان، وهو المحور الذي عقدوا العزم على صده. وما تعطل المحادثات في فيينا، والأزمة المتواصلة في أوكرانيا، وتجدد التوتر والتموضع العسكري في تايوان، إلا جزء من القصة ذاتها.

والأغرب من كل ذلك أن تلوم الولايات المتحدة حركة طالبان على هذا الوضع، وتقرر حبس الأموال المودعة لديها لأسباب تتعلق بحقوق الإنسان، أو بحجة عمليات القتل الليلية، التي ترتكب بحق الموظفين السابقين في الدولة، أو بحجة حظر تعليم الفتيات. أما وقد أغلق صنبور الدخل الأمريكي الآن بتعبير دافيد هيرست، نرى أفغانستان كيف تقف على شفا هاوية مجاعة شاملة. الولايات المتحدة لا تحاسب نفسها على ما قامت به من أجل تنشئة ورعاية دولة لا يمكنها أن تعمل دون الأموال التي تفرض أمريكا نفسها حاليا حظرا عليها. تتحمل الإدارة الأمريكية المسؤولية المباشرة عن المجاعة التي تضرب أفغانستان الآن، ولا يقبل منها تبرير الاستمرار في حبس الأموال، والحيلولة دون وصولها إلى أفغانستان، بحجة أن الحركة استولت على السلطة عسكريا، بدلا من أن تنجز ذلك عبر عملية تفاوضية مع أمراء الحرب الأفغان. دخلت طالبان إلى كابول دون إطلاق رصاصة واحدة تقريبا، لأن كل شيء انهار قبل أن يدخلوها. لقد باغت انهيار القوات الأفغانية الجميع وأخذهم على حين غرة، بما في ذلك المخابرات الباكستانية، التي تتهمها الهند والحكومات الغربية بإدارة شبكة حقاني التابعة لطالبان. والبلد الوحيد الذي كان يعلم بما يجري على الأرض هو إيران، لأن ضباطا من سلاح الحرس الثوري الإسلامي كانوا يرافقون مجموعة طالبان في زحفهم، حسب ما صرحت به مصادر إيرانية مقربة من الحرس الثوري.
هدف الولايات المتحدة وبريطانيا ينحصر في الاحتفاظ بالسيطرة على المناطق المنتجة للنفط وليس الدفاع عنها. ونرى المفارقة بين الموقف الأمريكي من إسرائيل وموقفها من العرب، خاصة فلسطين. هذا ثبت منذ عقود، دعم الكيان الصهيوني في أمريكا يستند إلى نحو متزايد على الكنائس الإنجيلية وحزب اليمين القومي والعنصري في الغالب المعادي للمسلمين، حيث تبنت المؤسسات الكبرى، ولاسيما الكنيسة المشيخية، برامج المقاطعة، وسحب الاستثمارات، مع التركيز أيضا على الشركات الأمريكية المشاركة في الاحتلال. لوم الضحية بتعلّة هجوم السابع من أكتوبر، ضمن عملية طوفان الأقصى يكشف عن أيديولوجيا الاكتشاف الكولونيالية، الملازمة للأيديولوجيا الأمريكية المسيطرة، التي وفقا لها لا وجود لفلسطين، لأنّ ما يحمل صفة الوجود الحقيقي هي فلسطين، وليس كيان الاستيطان الإحلالي. على النقيض من صورة الصهيوني، يُحوَّل الفلسطيني إلى أسطورة أخرى تمثل نفيا للأولى، لذا يتم اختزاله إلى نماذج جاهزة: مسلم مأفون هائج مأخوذ بعنف مجاني، لا عقلاني، متوحش وبدائي. تصدر صورة الفلسطيني، كما يُظهرها إدوارد سعيد، من صورة الصهيوني، المنبثقة من سلطة الإعلام. والفلسطيني معادٍ للمعايير الأمريكية لأنه معاد للواقع الصهيوني، لذا تقع عليه الصفات الأمريكية الجاهزة: إرهابي ، شيوعي، وهو في النهاية بالنسبة لها معاد للسامية. أمريكا ترى بعين مصلحتها، وتتحول سياستها بتحول مصالحها. الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش كان يعد صدام حسين حليفه وصديقه حتى سنة 1990، حيث ارتكب أول مخالفة للأوامر في إشارة إلى احتلاله الكويت. صدام ساعتها فقد صفة المعتدل من وجهة النظر الأمريكية لأنه اجتاح الكويت، لكنه عندما كان حليفا لأمريكا، لم يكن كذلك في نظر بوش الأب. استغلت أمريكا في تلك المرحلة النظام العراقي إلى أعلى درجة، ووجهته لتحقيق مصالحها، فكان أداتها. الموقف الأمريكي لا يرتبط إلا بمصالحه التي تعين مكانه وزمانه، كما يرى نعوم تشومسكي. فمن يحظى بشرف واحترام السياسة الأمريكية، وينال التأييد هو الحاكم الذي يخدم مصالحها، ويحافظ على توجيه وتوصيل تدفق الأرباح لها ولشريكها البريطاني. فإذا قام هذا الحاكم بمهمته على أكمل وجه، فستكون مكافأته الضخمة من قبل دافع الضرائب الأمريكي. ازدواجية معايير الإدارة الأمريكية واضحة على الدوام والتزامها بحقوق الإنسان «أسطوري كاذب»، فهذه الحقوق تتحدد على أساس الإسهامات في حفظ النظام. فللحكومات العربية حقوق لأنها تسيطر على الشعوب، وتضمن تدفق الثروة إلى الغرب، ولبريطانيا حقوق ما دامت تلعب دور التابع الوفي للولايات المتحدة تشاركها الحروب وانتهاكات القانون الدولي وعدم احترام الهيئات الأممية.
الوضع في الأراضي المحتلة اليوم أسوأ بكثير من الفصل العنصري، يريد الكيان الصهيوني بشكل أساسي أن يختفي الفلسطينيون، وهذا العرف السائد للمجتمعات الاستيطانية الاستعمارية. تعتبر الولايات المتحدة عملا إرهابيا كل عمل يزعج إسرائيل أو يضيرها، سواء كان ذلك في الحاضر أو في المستقبل. يدلل تشومسكي كيف تمارس أمريكا إرهاب الدولة، إذ تمارس عنفا إعلاميا داخليا، يعطي الزيف شكل البداهة، وعنفا خارجيا قاتلا يعطي القتل شكل الإنقاذ. اليوم يدرك المحللون الاستراتيجيون الصهاينة أنفسهم، أن الكيان الصهيوني لم يعد قادرا على الاعتماد على الدعم الذي يتلقاه من الدول التي يوجد فيها بعض الاهتمام بحقوق الإنسان، ويجب عليه أن يتقارب بشكل أكبر مع المزيد من القطاعات الرجعية والاستبدادية، وهذا تغيير كبير لم تمض عليه سنوات كثيرة. هذا يبرر إلى حد كبير الهدف الاستراتيجي للحكومة الأمريكية، بقدر ما يمكن للمرء استخلاصه من حالة الفوضى التي تكرسها مع كيانها الصهيوني في المنطقة، وهو ترسيخ ائتلاف بين إسرائيل وأغلب ما يمكن من الدول العربية. والانضمام لمواجهة عدوهم المشترك إيران التي تشكل تهديدا على الهيمنة الأمريكية في المنطقة، وعلى حرية الكيان الصهيوني في اللجوء الى العنف والعربدة، وذلك بدعمها العلني لحركات المقاومة في فلسطين ولبنان أساسا. بالمحصلة التي لا بديل عنها، طريق الكيان الصهيوني وداعمه الأمريكي للخروج من هذا المأزق في الشرق الأوسط، وتحديدا في علاقة بالحالة الفلسطينية والصراع المستمر، هو الانضمام إلى جميع دول العالم تقريبا في الموافقة على وقف الحرب الهمجية ومشروع الإبادة والتهجير. واتباع صيغة مقبولة لحل الدولتين على أساس الحدود المعترف بها دوليا، ما يسمى الخط الأخضر، مع مقايضة الأراضي بشكل عادل ومحدود، من دون ذلك ستستمر الفوضى ولن تكسب أمريكا أو إسرائيل سوى تفاقم الكراهية، ومزيد تهديد المصالح الاقتصادية والتجارية، وبقاء المنطقة على صفيح ساخن ومصير مجهول.