السياسي – سلط الزميل غير المقيم في المركز العربي بواشنطن، جريجوري أفتانديليان، الضوء على سياسة إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إزاء أزمتي: حرب غزة وهجمات الحوثيين في البحر الأحمر، واصفا إياها بأنها تظهر أن قيادة الولايات المتحدة ترى في الشحن التجاري أهمية أكبر من حياة الفلسطينيين.
وذكر أفتانديليان، في تحليل نشره موقع المركز أن إدارة الجيش الأمريكي قام بضرب رادار الحوثيين ومواقع الإطلاق في شمال اليمن عدة مرات منذ 11 يناير/كانون الثاني الجاري، لكن بايدن أقر بأن الضربات لن تردع الحوثيين على الأرجح، بل ربما تؤدي فقط إلى إضعاف قدراتهم العسكرية إلى الحد الذي يجعل طريق الشحن الحيوي بالبحر الأحمر لا يعود إلى الخطر.
وبينما تظهر الولايات المتحدة قيادة دولية قوية في هذه الحالة، لا يمكن قول الشيء نفسه عن دورها في غزة، بحسب تقدير أفتانديليان، مشيرا إلى استمرار سقوط المدنيين الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة رغم مناشدات الولايات المتحدة لإسرائيل للحد من الخسائر والسماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية.
وأكد أن الرد الأمريكي الأكثر صرامة، بما في ذلك الدعوة إلى وقف إطلاق النار ووضع شروط على المبيعات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، كما يطالب بعض الديمقراطيين في الكونجرس، هو وحده القادر على تغيير هذه الديناميكية.
حماية ممر الشحن
وكانت إدارة بايدن تأمل في البداية أن يتم احتواء الحرب بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في غزة وألا تؤدي إلى صراع إقليمي أوسع يجذب الولايات المتحدة، لكن ذلك لم يحدث، وشنت الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في سوريا والعراق عشرات الضربات على المواقع الأمريكية في هذه البلدان، ما أدى إلى ضربات أمريكية انتقامية.
كما أطلق حزب الله في لبنان الصواريخ على شمال إسرائيل، وهاجم الحوثيون في اليمن السفن التجارية في البحر الأحمر، لمنع السفن من الشحن إلى إسرائيل.
ورغم أن بعض هذه الأعمال قد يتم تشجيعها أو حتى توجيهها من إيران، إلا أن هذه الجماعات تعمل غالبًا وفقًا لمقتضياتها الأيديولوجية الخاصة، والتي تشمل معارضة إسرائيل والولايات المتحدة بقوة، بحسب أفتانديليان.
وفي هذا الإطار، شن الحوثيون 30 هجومًا صاروخيًا أو بطائرات مسيرة على السفن التي تعبر البحر الأحمر، ورداً على ذلك، أخذت الولايات المتحدة زمام المبادرة في إنشاء تحالف بحري دولي مهمته حماية الممر الملاحي الحيوي، الذي يمتد من مضيق باب المندب جنوباً إلى قناة السويس شمالاً.
وحتى أواخر ديسمبر/كانون الأول، كان نهج البحرية الأمريكية هو إحباط هجمات الحوثيين من خلال اعتراض صواريخهم فوق البحر الأحمر، وكانت إدارة بايدن تأمل أن تظهر مثل هذه الإجراءات الدفاعية للحوثيين فشل جهودهم، لكن ذلك لم يردعهم.
وفي 31 ديسمبر/كانون الأول، تصاعدت الأحداث عندما استجابت مروحيات تابعة للبحرية الأمريكية من حاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس أيزنهاور” في البحر الأحمر، لنداء استغاثة من سفينة مملوكة لشركة “ميرسك” الدانماركية ترفع علم سنغافورة، والتي تبادل فريقها الأمني إطلاق النار مع المسلحين الحوثيين الذين اقتربوا من السفينة في 4 قوارب صغيرة.
واستجابت مروحيات البحرية الأمريكية لنداء الاستغاثة الذي أرسلته سفينة ميرسك، واشتبكت في تبادل لإطلاق النار مع المسلحين الحوثيين، ما أدى إلى إغراق 3 من قوارب الحوثيين الأربعة ومقتل جميع من كانوا على متنها. وحمل متحدث باسم الحوثيين “العدو الأمريكي تبعات الجريمة وتداعياتها”.
ومن المثير للاهتمام أن السعوديين، الذين شاركوا في مفاوضات مع الحوثيين ويرغبون في تخليص أنفسهم من الصراع اليمني، رفضوا أن يكونوا جزءًا من قوة الحماية البحرية في البحر الأحمر التي تقودها الولايات المتحدة، لأنهم، لا يريدون تعريض مفاوضات السلام اليمنية للخطر.
التزام دولي
من جانبها، اعتقدت إدارة بايدن، في مواجهة هجمات الحوثيين المتصاعدة على الشحن التجاري، أن لديها التزامًا دوليًا باعتبارها الدولة التي لا غنى عنها في العالم لوقف مثل هذه الهجمات.
وبحلول ديسمبر/كانون الأول، بدأت بعض الشركات الخاصة في إعادة توجيه سفنها من العبور العادي عبر البحر الأحمر إلى قناة السويس، ووجهتها للالتفاف حول رأس الرجاء الصالح بجوار جنوب أفريقيا، وهي رحلة أطول وأكثر تكلفة. وبحسب تقارير صحفية، تشمل هذه الشركات شركة النفط الكبيرة “بريتش بتروليوم” وشركة حاويات الشحن العملاقة “ميرسك”.
ويشير أفتانديليان، في هذا الصدد، إلى أن التكاليف الإضافية للشحن البحري يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع الأسعار على المستهلكين، ومن شأن ذلك أن يعيق الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة والحكومات الأخرى لخفض التضخم في بلدانها.
ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، فمن المرجح أن يشعر بايدن بالقلق من تسبب هجمات الحوثيين في مشاكل بسلسلة التوريد وارتفاع التضخم.
وإزاء ذلك، قررت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة شن سلسلة من الهجمات على مواقع إطلاق الرادارات والصواريخ الحوثية داخل اليمن.
وفي حديثه بعد وقت قصير من الضربات الأولى، صرح بايدن بأنه “لن يتردد في توجيه المزيد من الإجراءات لحماية التدفق الحر للتجارة الدولية حسب الضرورة”. واستمرت الضربات الأمريكية البريطانية في الأيام اللاحقة بشراسة متزايدة.
وفي ضوء تجربة الحوثيين في مقاومة هجمات القصف السعودية خلال ذروة الصراع اليمني، توقع بعض المحللين أن لا يكون للضربات الأمريكية والبريطانية تأثير رادع، وهو ما جرى بالفعل، حسبما يرى أفتانديليان.
وفي 18 يناير/كانون الثاني، عندما سأله أحد المراسلين عما إذا كانت الضربات ضد الحوثيين ناجحة، أجاب الرئيس بايدن بـ “لا”، لكنه أضاف أنها ستستمر.
وتتمثل الإستراتيجية الأمريكية في إضعاف قدرة الحوثيين على شن هجمات على السفن التجارية ومنع إيران من إعادة إمدادهم، كما يتضح من استيلاء البحرية الأمريكية مؤخرًا على مركب شراعي يحتوي على أسلحة إيرانية كان يُعتقد أنها متجهة إلى الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون.
كما صعدت الولايات المتحدة من موقفها ضد الحوثيين من خلال تصنيفهم، في 16 يناير/كانون الثاني، كـ “كيان إرهابي عالمي”، ما أدى إلى إحياء التصنيف الذي يعود إلى عهد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، وأزالته إدارة بايدن عندما تولت السلطة لأول مرة من أجل لتسهيل تقديم المساعدات الإنسانية الدولية إلى اليمن.
ومع ذلك، قرر المسؤولون الأمريكيون أن إعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية لن يدخل حيز التنفيذ حتى 16 فبراير/شباط القادم، في إشارة إلى رغبة إدارة بايدن في عدم توسيع الصراع بشكل أكبر، وكحافز للحوثيين لإعادة التفكير في استراتيجيتهم لمهاجمة السفن التجارية.
دور إيران
وهنا يشير أفتانديليان إلى المناقشات حول دور إيران في التحكم بخيوط الميليشيات المتحالفة معها بالمنطقة، إذ قدمت طهران، من خلال فيلق القدس التابع للحرس الثوري، الأسلحة والمشورة العسكرية وغيرها من المساعدات لمختلف الميليشيات الشيعية، بما في ذلك الحوثيين، على مر السنوات الماضية.
لكن الحوثيين أرادوا إظهار أن هجماتهم في البحر الأحمر “كانت رد فعلهم الخاص” لإظهار التضامن مع الفلسطينيين ومعارضة إسرائيل في حرب غزة.
وقد ينظر النظام الإيراني إلى هذه الهجمات، فضلاً عن الهجمات ضد أفراد أمريكيين في سوريا والعراق، كوسيلة منخفضة التكلفة لجر الولايات المتحدة إلى حرب إقليمية. وربما تأمل إيران أن تبالغ الولايات المتحدة في رد فعلها على نحو يؤدي إلى إضعاف موقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، حسبما يرى أفتانديليان، فيما يرى العديد من المسؤولين الأمريكيين، أن كل الطرق تؤدي إلى طهران.
القيادة غائبة
ولم يقابل الموقف الأمريكي لقيادة المجتمع الدولي في حماية الشحن بالبحر الأحمر قيادة أمريكية مماثلة في حرب غزة. فهناك، استخدمت الولايات المتحدة نفوذها عدة مرات لمنع الإجماع الدولي المتزايد لصالح وقف إطلاق النار.
وترى أغلب الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أن أعداد الشهداء المتزايدة (أكثر من 25 ألفاً الآن) والدمار في غزة يشكل وضعاً لا يطاق ولابد من وقفه.
وأصبح بايدن وفريقه يشعرون بالإحباط تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وحكومته بشأن قضايا أهمها: فشل إسرائيل في تقليل الخسائر بصفوف المدنيين الفلسطينيين والسماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة.
ومع ذلك، فإن انتقادات الولايات المتحدة، التي يتم التعبير عنها عادة في الاجتماعات الخاصة، لم تكن مصحوبة بأي تدابير ملموسة.
وفي تحد واضح لبايدن، رفض نتنياهو علانية وبشكل قاطع الخطة الأمريكية لإعادة تنشيط السلطة الفلسطينية لحكم غزة بعد انتهاء الحرب وعارض التزام الإدارة بحل الدولتين.
كما أكد نتنياهو مؤخراً وجهة نظره بأن إسرائيل يجب أن تمارس سيطرتها الأمنية الكاملة على جميع الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن، وهو موقف من شأنه أن يستبعد أي نسخة من الدولة الفلسطينية، أو حتى أي كيان فلسطيني يتمتع بالحكم الذاتي.
ويرى أفتانديليان أن إحجام بايدن عن التعامل الصارم مع نتنياهو ورفضه استخدام النفوذ الأمريكي لتغيير التكتيكات الإسرائيلية في غزة لم يزعج العالم العربي والمجتمع الدولي الأوسع فحسب، بل وأيضاً عدداً متزايداً من المسؤولين في حزبه.
فقد أعرب عدد من الديمقراطيين في الكونجرس عن مخاوفهم بشأن مبيعات الأسلحة التي تقدمها الإدارة لإسرائيل دون أي قيود، واعترضوا على استخدام إدارة بايدن في ديسمبر/كانون الأول لسلطة الطوارئ التي سمحت لها بتجاوز الكونجرس لتسريع عملية بيع قذائف مدفعية ومعدات عسكرية لإسرائيل بقيمة 147.5 مليون دولار.
وعارض نحو 10 من أعضاء مجلس الشيوخ طلب الإدارة الأمريكية بصياغة تشريعية جديدة تسمح للسلطة التنفيذية بتجاوز إشراف الكونجرس على عمليات نقل الأسلحة المستقبلية إلى إسرائيل.
ولكن بدلاً من اتخاذ الموقف الأخلاقي واستخدام المساعدات كوسيلة لوقف إراقة الدماء والظروف الأليمة في غزة، “يهدر بايدن القيادة الأمريكية من خلال الاستمرار في منح إسرائيل شيك على بياض” بحسب تعبير أفتانديليان، واصفا ذلك بأنه “يعطي الانطباع بأن الولايات المتحدة مهتمة بحماية الشحن التجاري أكثر من اهتمامها بحماية حياة الشعب الفلسطيني المحاصر”.