الطرد من التاريخ بالإبادة الناعمة في زمن ما بعد الحداثة:

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين.

 

في زمنٍ تتداخل فيه الأقنعة مع الوجوه، وتتبدّل فيه أدوات السيطرة من فوهة البندقية إلى بريق الشاشة، ومن المدفع إلى المنصة الرقمية، يبدو أن الاستعمار لم ينتهِ، بل فقط بدّل بدلته. إن أولئك الذين لا يزالون يرفعون الصوت محذرين من الاستعمار ومآسيه، كأنهم يتحدثون عن شبح لم يُولد بعد، متناسين أن الطوفان قد اجتاحنا، وأننا اليوم لا نقف على عتبة الخطر، بل نُساق في تياره منذ عقود. لقد وقع السيف، وانتهى العذل، ونحن نحيا وسط الركام الذي خلّفته الضربات المتتالية على الجسد الحضاري والإنساني لأمتنا، من دون أن نملك حتى رفاهية إدراك شمولية الجرح أو عمقه.
إن أخطر ما أنتجته حقبة ما بعد الحداثة، ليس التمرد على الثوابت ولا انهيار السرديات الكبرى فحسب، بل إبداعها لأساليب جديدة في الفتك والتهميش، يصعب رصدها أو مواجهتها بالوسائل التقليدية. فقد ظهرت في أحشاء هذا العصر العجيب، ما يمكن تسميته بـ*”الإبادة الناعمة”*، تلك التي لا تُراق فيها الدماء، ولا تُشهر فيها السيوف، بل تتسلّل إلى وعي الإنسان وهويته وثقافته، فتُدجّنه وتعيد تشكيله ليصير قابلاً للانقراض، لا عن طريق القتل، بل عن طريق الانفصال التدريجي عن شروط البقاء الحضاري.
إنها إبادة بلا مدافع، طردٌ ناعم من التاريخ، حيث لا يلقى الضحية مصرعه في ميدان المعركة، بل يُختطف من سياقه الزمني، فيُصبح وجوده أقرب إلى الحكاية المعلّقة بين زمنين لا يعترفان به، أو كائناً يعيش في “الساعة الخامسة والعشرين”، وهي استعارة أدبية/فكرية عن لحظة فائتة، لا تنتمي إلى الأمس ولا إلى الغد، بل إلى فراغ زمني لا مكان فيه لمَن لم يُتقن لعبة البقاء. وكذلك “اليوم الثامن من الأسبوع”، اليوم الذي لا يأتي، والذي يُحيل إلى الترحيل الميتافيزيقي خارج إحداثيات الزمان المعترف بها.
إنها حالة الطرد من التاريخ، لا بوصفها فعلاً قسرياً بل بآلية طوعية غير مرئية، تشبه نزع الاسم من سجل الأحياء. فالأمم التي تفشل في أن تُنتج خطابها، وتُعيد تشكيل سرديتها، وتُقابل التحديات بوعي خلّاق لا بردّة فعل ديناصورية، تجد نفسها وقد غابت عن المشهد دون إطلاق رصاصة واحدة.
لقد كتب جوزيف ناي عن “القوة الناعمة” بوصفها قدرة الدولة على تحقيق أهدافها عبر الجذب والإقناع بدلًا من الإكراه، مشيراً إلى الثقافة، والقيم السياسية، والسياسات الداخلية والخارجية التي تحوز على شرعية أخلاقية. لكننا اليوم نشهد انحرافاً مرعباً لهذا المفهوم: إذ تُستخدم القوة الناعمة بوصفها غطاءً لعمليات إخراج شعوب بأكملها من التاريخ، تحت شعار العولمة والانفتاح، فيما هي في الحقيقة عملية “تمييع حضاري” تمهّد لتفريغ الكيانات من مضامينها، بحيث تتحوّل إلى مجرد توابع وظيفية في منظومات أقوى.
وهكذا، يمكن أن تُباد أمة بكاملها دون أن تُسفك منها قطرة دم واحدة، إذا فاتها الزمن، وإذا كانت استجابتها للمهددات استجابة منقرضة، بدائية، تكرّر ذات الآليات العتيقة أمام متغيّرات لم تعد تعبأ بتلك الأدوات. فكما لم تصمد الديناصورات أمام تحوّلات المناخ الوجودي، فإن الأمم التي لا تُجيد تعديل خرائطها الفكرية والاستراتيجية، تصبح لقمة سائغة لإبادة ناعمة تُنسيها حتى أنها كانت هنا يومًا.
_ خاتمة:
ما من إبادة أكثر فتكاً من تلك التي لا يراها الناس وهم يقعون ضحاياها. وما من استعمار أكثر دهاءً من ذاك الذي يُقنعك بأنك اخترت مصيرك. وفي عالمٍ باتت فيه القيم تُعاد تدويرها، والوعي يُصاغ عبر أدوات خارجية، فإن معركة البقاء لم تعد معركة الجغرافيا أو السلاح، بل معركة الذاكرة والسرد والفهم الذاتي. ففي زمن ما بعد الحداثة، الطرد من التاريخ لا يتم بالبندقية، بل بالضحك على أطلال الذات.