ليس كل مثقفٍ مثقفًا. كثيرون ممن يُطلق عليهم هذا الاسم، ليسوا سوى مهرّجين فكريين على مسرح الجماهير، يبيعون كلماتهم كـ”ما يطلبه المستمعون”. والمثقف الذي يخاف أن يُغضب الجمهور، ليس مثقفًا، بل مراوغ مأجور.
إنهم لا يكتبون ليوقظوا، بل لينوّموا. لا يصرخون بالحقيقة، بل يهمسون بالأكاذيب التي يحب الناس سماعها. إنهم عبيد لـ”الذوق الجمعي”، ومروّجون لبضاعة الرداءة، ولو باسم “الوطن”، أو “المقاومة”، أو “الإيمان”.
قال نيتشه: “الذي لا يستطيع أن يعارض، لا يملك شيئًا ليضيفه.” وهؤلاء لا يعارضون شيئًا، لأنهم لا يملكون إلا صدى صوت الجمهور. يعيشون في منطقة الراحة، حيث لا مواجهة، ولا شغب، ولا خسارة جمهور.
جان بول سارتر قالها بوضوح: “المثقف هو من يُقلق، لا من يُرضي.” فماذا نفعل بمثقفين يسعون خلف التصفيق لا الحقيقة؟ ماذا نفعل بشعراء يكتبون للمنصة لا للضمير؟ بخطباء يزينون الجهل بآيات وشعارات، ثم يسمّون ذلك وعيًا؟
الجاهل معذور، أما المثقف الذي يُرضع الناس وهمًا باسم المقاومة، ويغطي خيانات الواقع بشعارات، فهو خائن مضاعف. غرامشي ميّز بين “المثقف التقليدي” و”المثقف العضوي”، فالأول يعيش في برج عاجي أو في حفلة جماهير، والثاني يغوص في وعي الناس ليحررهم لا ليخدرهم.
ما أكثر من يرتدون عباءة “المثقفين الوطنيين”، وهم في حقيقتهم موظفون لدى الخطاب السائد. ينقحون كذبته، يجمّلون قبحه، يبررون عجزه، ويمدّون حبل الأمل الزائف لمن ينتظر “الخلاص من السماء”، أو من “كتائب لن تأتي”.
يقول إدوارد سعيد: “على المثقف أن يقف في موقع الضد من الإجماع السائد.” لكن أغلب مثقفينا يقفون في قلب الإجماع، ويطلبون التصفيق بعد كل خيانة فكرية. لقد صاروا أدوات تزيين لقبح الواقع، لا مطارق لكسره.
إن من يكتب ما يعجب الناس، لا ما يوقظهم، يُشبه الطبيب الذي يصف المخدر بدل العلاج. يعالج العرض لا الجرح. وهذا الجرح اسمه: التجهيل، الطاعة العمياء، الانغلاق العقائدي، وتمجيد الراية فوق الإنسان.
أيها المثقف، إن لم تكن مستعدًا لقول ما يزعج، فاصمت. لا تسهم في قتل الوعي بجرعات جمال لغوي. لا تكتب لتنال رضا الجمهور، بل لتفجّر فيه القلق المقدّس. قل ما يجب، لا ما يُطلب. فـ*“المثقف التابع” هو أكثر خطورة من الجاهل، لأنه يجعل الجهل مقبولًا ومحبوبًا.”*
فلسطين لا تحتاج مزيدًا من الأدباء والمثقفين المهادنين، ولا “مقاومين أدبيين” يُطربوننا بشعارات مأجورة. فلسطين تحتاج مثقفين يشعلون الحرائق في عقولنا، لا يطفئونها ببلاغة وزخرفة كلمات
المثقف الذي لا يقوم بدوره في تفجير العقل والتفكير النقدي فيسوق للدهماء الجهل والتجهيل لانه يبحث عن ما يرضي القطيع لا ما يوقظه هو المثقف الخائن لرسالته الانسانية