المرحلة الثالثة: حين يتحوّل الدولار إلى رصاصة مرتدة في رأس ممولي الطوفان

بن معمر الحاج عيسى

في عمق العتمة التي تخيّم على سماء غزة، ومع توالي المجازر وضجيج المآذن المنكوبة، ووسط رماد الأطفال المحترقين في الأفران الإسرائيلية، تنكشف حقيقة أقسى من النار ذاتها: لم يكن العدو وحده من يحاصر غزة، بل من لبس قناع المقاومة ليسرق باسمها قوت المحاصرين. اليوم تُسدل الستارة على واحدة من أخطر المراحل في تاريخ الحركة الإسلامية الفلسطينية، التي اختزلت باسم “حماس”، إذ تتقدم المرحلة الثالثة من خطة نيويورك كمنظومة دولية لا تستهدف قتل المقاتلين في الميدان، بل تسعى إلى اغتيال الهيكل المالي والتنظيمي للحركة. لم تعد الصواريخ هي الميدان، بل الحسابات البنكية، والعقارات المموّهة، والشركات الوهمية، والتحويلات الرقمية، والجمعيات الخيرية التي أصبحت غرف غسيل أموال ملوّثة بدم الأبرياء. فحين ترى قيادات حماس تصرخ في المؤتمرات، وتستشيط غضبًا في وسائل الإعلام، وتشنّ حملات تشويه ضد خطة نيويورك، فلا تظننّ أن الأمر سياسي أو عسكري فحسب، بل هو الخوف الكامن من أن تُسحب السجادة من تحت أقدام من بنوا مجدهم على أنقاض المذابح، وتاجهم من الذهب المهرّب من جثث الأطفال.

المرحلة الثالثة ليست جديدة تمامًا، فقد بدأت ملامحها منذ سنوات، لكن التسارع الفاضح ظهر بعد العدوان الإسرائيلي في 2023، حين بدأ العالم الغربي – الذي طالما كان شريكًا أعمى – يفتح عينيه على مفارقة مؤلمة: كيف لحركة تصف نفسها بـ”المحاصَرة” أن تملك مئات الملايين من الدولارات في استثمارات تركية وقطرية؟ كيف لمن يقود “التحرير” أن ينام في فندق فخم بينما شعبه يختنق تحت الأنقاض؟ كيف لحركة تزعم المظلومية أن تُصنّف في تقارير الاستخبارات الدولية على أنها أحد أكثر الكيانات استفادة من العملات المشفرة وغسيل الأموال؟ هنا تحديدًا بدأت خيوط “المرحلة الثالثة” تتكوّن، ليس كردة فعل أخلاقية على دماء غزة، بل كنتيجة مباشرة لتحوّل حماس إلى شبكة مالية معولمة، تموّل نفسها عبر أدوات شبه مافيوية: شركات تكنولوجيا وهمية، جمعيات إغاثية في أوروبا، تحاويل بيتكوين مموّهة، شراكات عقارية مع أثرياء محسوبين على تيارات إسلامية عابرة للحدود.

لقد دخلت تقارير مركز “C4ADS” الأمريكي المتخصص في تتبع الشبكات المالية المشبوهة، ومنظمات مثل “فاينانشل آكشن تاسك فورس (FATF)”، ومراكز الأبحاث الأوروبية، في تفاصيل مذهلة عن شبكة حماس المالية، بدءًا من شركات واجهة في كوالالمبور تموّل عمليات شراء الأسلحة من السوق السوداء، إلى تحويلات شهرية تُرسل من منظمات “إغاثة فلسطينية” في لندن إلى حسابات مرتبطة بأشخاص من الدائرة الضيقة لقيادات الجناح العسكري للحركة. ولعل التقرير الصادر عن وزارة الخزانة الأمريكية في 2024 الذي أدرج 9 كيانات مالية على صلة بحماس ضمن لائحة العقوبات، يشكّل نقطة انعطاف في السياسة الدولية تجاهها، خصوصًا بعد أن ثبت أن بعض هذه الكيانات كانت تعمل تحت مظلة الجمعيات الخيرية المدعومة حتى من حكومات خليجية.

إن أخطر ما في هذه المرحلة أنها لا تسعى إلى اجتثاث حماس كقوة مسلّحة فقط، بل كمنظومة تمويل عابرة للدول، تعيش على تبرعات الشعوب البسيطة التي ظنّت أنها تُعين غزة، بينما أُعيد تدوير أموالها لبناء فنادق في إسطنبول، وشراء عقارات في أزمير، وتأمين رفاهية غير مسبوقة لأبناء القيادات في الدوحة وكوالالمبور. ومع تزايد الضغوط على المنصات التي استخدمها وسطاء حماس لتحويل البيتكوين، مثل Binance وTrust Wallet، وإغلاق بعض المنظمات المرتبطة بها في ألمانيا وهولندا والنمسا، بدأت الحركة تدرك أن ما يأتي لن يكون ضربة عسكرية تُنقل صورها إلى الفضائيات، بل اغتيال صامت للهيكل المالي، يذوّبها من الداخل، ويحوّلها إلى كيان مشلول لا يملك حتى دفع رواتب عناصره.

من المؤلم أن تتحوّل المقاومة إلى تجارة، لكن الأكثر إيلامًا أن يتحوّل الغضب الشعبي إلى طوق نجاة لأعداء القضية، لأنهم عرفوا كيف يستخدمون فضائح الداخل لضرب الداخل. اليوم، بات واضحًا أن الحرب لم تعد على الجبهات، بل على رزم الدولار المهربة، وعلى فاتورات الفنادق، وعلى أرصدة الأبناء الذين يعيشون في أوروبا ولا يتكلمون حتى اللغة العربية. ولم يكن حديث صحيفة “هآرتس” عن حملة استخباراتية دولية لتفكيك شبكات تمويل حماس في تركيا ولبنان إلا إشارة إلى أن الرهان هذه المرة ليس على الطائرات، بل على الأرقام والمعلومات والبصمات الرقمية.

اليوم، لم تعد دموع قادة حماس تنطلي على أحد. فحين يُقتل طفل في غزة، يُسأل: لماذا لم تُبنى له ملاجئ؟ وأين ذهبت تبرعات العالم الإسلامي؟ وعندما يُدفن جريح في الرمال لأنه لم يجد دواء، يُسأل: لماذا فُتحت عشرات المستودعات الطبية في الخارج باسم غزة بينما الداخل يموت؟ وعندما تجفّ مياه الشرب، يُسأل: كيف لحركة تملك مشاريع مياه في السودان وأفريقيا الوسطى ألا تملك صهريجًا في مخيم الشاطئ؟

إن المرحلة الثالثة من خطة نيويورك ليست حربًا على غزة، بل على من خذل غزة من داخلها. إنها صرخة العدالة المتأخرة، التي وإن أتت من عوالم لم تكن يومًا نزيهة، فإنها تنجح على الأقل في كشف المستور. حماس اليوم لا تواجه صواريخ، بل ملفات قضائية دولية، ولا تواجه إعلامًا معاديًا، بل تقارير بنكية موثقة. والنتيجة المحتومة: نهاية عصر التمويه، نهاية العيش في الفنادق باسم الشهداء، ونهاية الطفيليات التي تعيش على دماء الأطفال المذبوحين وهم يرفعون أصابع الشهادة ولا يعرفون أن خلفهم من كان يُعد الملايين في عتمة البنوك.

لن يُمحى التاريخ، لكن سيتغيّر من يكتبه. ولن تُنسى غزة، لكن ستُنسى وجوهٌ لبست قناعها وسرقتها باسمها. وهذه، بالضبط، هي المعركة التي تقاتلها “المرحلة الثالثة”.