يبرز التحرك السياسي التركي على أكثر من مسرح إقليمي، ضمن تفاعلات استراتيجية واقتصادية كبرى، تبحث من خلالها أنقرة على أن تكون فاعلا في وجود حقيقة العقدة الاستراتيجية التي تعيشها حكومة حزب العدالة والتنمية، خاصة مع اقتراب الانتخابات البرلمانية والرئاسية، التي قد تغير نتائجها جوهريا طبيعة السياسة الخارجية. في الأثناء، تبحث أنقرة عن تصفية المشكلات وتصفيرها تجاه الدول الرئيسية في الإقليم، وقد فعلت ذلك مع السعودية والإمارات وكيان الاحتلال وتحاول أيضا مع اليونان ومصر. وبعد سنوات من القطيعة، تظهر مؤشرات تقارب تدريجي بين أنقرة ودمشق، فهل يمكن اختصار الأزمة السورية بطبيعة العلاقة بين تركيا والنظام السوري؟ خاصة مع تضارب المصالح على المستوى الإقليمي والدولي، واحتدام التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى في النظام العالمي.
مقاربة ذات أبعاد سياسية وأمنية واقتصادية هي جوهر التغيير في السياسة الخارجية التركية، التي بدأت منذ وصول إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السلطة مطلع عام 2021. وكان الخطاب الذي تبنّاه خلال حملته الانتخابية حادا تجاه أردوغان، ما أثار توجس أنقرة من الإدارة الأمريكية الجديدة. ومن الطبيعي حينها أن يتهم أردوغان الولايات المتحدة الأمريكية بأنها «تغذي الإرهاب في سوريا»، وأنها «زودت المنظمات الإرهابية بآلاف الشحنات من الأسلحة والمعدات، واستقبلت الإرهابيين في البيت الأبيض»، فيما أشاد بروسيا بوصفها شريكا في مكافحة الإرهاب، وقال: «في كل خطوة نتخذها في سوريا، تكون قواتنا الأمنية ووكالات المخابرات ووزارة الدفاع جميعها على اتصال».
تأتي محاولات التقارب التركية مع حكومة الأسد في سياق الجهود الروسية لإذابة الجليد بين أنقرة ودمشق، وإعادة العلاقات السياسية بين الطرفين تدريجيا
وتسعى حكومة أردوغان إلى إنشاء منطقة آمنة لإعادة توطين نحو مليون لاجئ سوري داخل الأراضي السورية، فقضية اللاجئين السوريين، التي تقدمها بعض أحزاب المعارضة باعتبارها أحد أسباب تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد، هي في صلب اهتمامات حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي يبحث عن حلها استباقا للانتخابات، إضافة إلى مسألة حزب العمال الكردستاني. ويبدو أنّ روسيا تستغل حاجة أردوغان إلى تحقيق نتائج بشأن هاتين القضيتين قبل الانتخابات، لدفعه إلى تغيير سياساته كليّا في سوريا. دمشق أيضا تحاول استغلال الضغط الانتخابي على حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، وبحثه الحثيث عن حل لموضوع اللاجئين والأكراد، فتشترط على أنقرة وضع جدول زمني للانسحاب من الأراضي السورية، والتخلي عن دعم المعارضة، وإعادة إدلب الخاضعة لسيطرة فصائل منها إلى النظام، واستعادة السيطرة على معبر باب الهوى بين تركيا وإدلب. فهل ستقبل الحكومة التركية مثل هذه الشروط، وهي التي تطالب النظام السوري بالانخراط في مفاوضات جدية مع المعارضة للوصول إلى تسوية سياسية؟ المسألة تبدو صعبة، خاصة أنّ النظام السوري يتطلع إلى خسارة أردوغان الانتخابات، ووصول المعارضة التركية إلى السلطة، لعقد تفاهم معها، بدلا من تفاهمات ظرفية ما قبل الانتخابات مع النظام التركي الحالي، الذي يحتاج مؤكدا إلى فرصة التفاهم لتعزيز حظوظه الانتخابية، مع أنه إذا فاز في الانتخابات واستمر في الحكم، من الصعب أن يواصل طرح مثل هذه التفاهمات مع سوريا. إعادة ترتيب الأولويات الراهنة والمحتملة في إطار المستجدات الجديدة، توحي من ناحية أخرى بأنّ مفاوضات رسم الحدود بين تركيا واليونان قد تأخذ بعض الوقت، في ظل المناخ الحالي لطبيعة العلاقات بين دول المنتدى. فيما تسعى أنقرة إلى التوصل إلى تهدئة الأوضاع، وتسكين الصراع في ليبيا التي قلبت فيها المعادلة عسكريا ضد المشير خليفة حفتر، الذي يحظى بالدعم من السعودية والإمارات ومصر وفرنسا وروسيا، وثبّتت نفسها لاعبا لا يُستهان به في الساحة الليبية. ولأنّ وضع الاقتصاد التركي الراهن لا يسمح بالمضي قدما في دعم مثل هذه المغامرات الطموحة في السياسة الخارجية إلى ما لا نهاية. فإنّ أنقرة تبحث بشكل واضح عن تطوير العلاقات الاقتصادية الجيدة مع الأطراف الإقليمية، من ذلك القبول التدريجي لعلاقات تركية مصرية حذرة نوعا ما، لكنها ستؤدي في رأي العديد من المراقبين إلى تغيير في معادلات الأمن والاستراتيجية والسياسة في الإقليم، وليس في منتدى غاز المتوسط فقط. والمرحلة الحالية توحي بأنّ المعطيات التركية الداخلية هي الأكثر تأثيرا في الموقف التركي الجديد تجاه سوريا وغيرها من الدول، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وخشية أردوغان وحزب العدالة والتنمية من خسارتها. وينظر الأكاديمي التركي سولي أوزيل إلى الطموحات التركية في المنطقة، ومستقبل العلاقات التركية مع الدول النافذة عند أطراف المنطقة العربية مثل إيران، وأيضا كيان الاحتلال الإسرائيلي، وآفاق العلاقات التركية مع حلف شمال الأطلسي الناتو بنوع من التفاؤل، حيث يعتبر أنّ تركيا نجحت على نحو محدود في سوريا، ويُستبعَد أن تغادر المناطق التي تدخّلت فيها منذ أغسطس 2016، حيث أوجدت فعليا نسخة جزئية عن منطقتها الأمنية المنشودة. وعلى الرغم من إجهاض تطلّع أنقرة إلى تغيير النظام السوري، أتاح لها موقعها الجغرافي ووجودها العسكري وأوراقها الاستراتيجية الرابحة أن تحجز لنفسها مكانا في موقع الفريق الفاعل، في مرحلة ما بعد النزاع. وقد تعاونت أنقرة وطهران مع روسيا في عملية أستانة حول الملف السوري، على الرغم من التباين الشديد في أهدافهما وتطلعاتهما في العراق وسوريا. وثمة مؤشرات توحي بأن التعاون الاستخباراتي يتواصل بين إسرائيل وتركيا، على الرغم من النفور بينهما، ومن العداوة الشخصية بين أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فالعلاقة الوثيقة التي تربط إسرائيل بمصر واليونان والإدارة اليونانية في قبرص، والتعاون الإسرائيلي مع هذه الأطراف في شؤون الطاقة في شرق المتوسط، ولّد انطباعا لدى الكثيرين بأنه يتعذّر تصويب العلاقات الإسرائيلية مع تركيا. ولا يُتوقَّع حدوث تحسّن كبير في العلاقات في المدى المنظور، رغم زيارة رئيس كيان الاحتلال إلى أنقرة وتبادل السفراء، لكن الموجب الاستراتيجي الذي يربط بين إسرائيل وتركيا لا يزال قائما. فيما تبقى تركيا عضوا في حلف شمال الأطلسي، على الرغم من قيامها بشراء منظومة إس-400 الروسية، ومن علاقاتها الاستراتيجية الوطيدة مع موسكو، واستيائها العميق من حلفائها في الناتو، بسبب عدم تضامنهم مع الحكومة التركية المنتخَبة خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة، على عكس بوتين الذي أبدى على نحو مبكر تضامنه مع أردوغان، مباشرة أثناء المحاولة الانقلابية.
تعتبر تركيا إحدى الدول الفاعلة في الملف السوري، سياسيا من خلال مسار أستانة، وأيضا سوتشي، كما أنها تستضيف أكثر من 4 ملايين لاجئ سوري. وتأتي محاولات التقارب التركية مع حكومة الأسد في سياق الجهود الروسية الساعية لإذابة الجليد بين أنقرة ودمشق، وإعادة العلاقات السياسية بين الطرفين تدريجيا، بما يساعد على حلحلة عقدة فقدان الشرعية الدولية، التي تمنع عودة سوريا إلى المجتمع الدولي. وعلى الأرجح الخطوات التركية تجاه النظام السوري تمليها معطيات تكتيكية، متصلة جوهريا بالانتخابات المرتقبة، وليس معطيات استراتيجية. والمسار السياسي والعسكري بين الجانبين ما يزال طويلا، حتى إن حدث لقاء بين الأسد وأردوغان. ولن تستطيع تركيا الانسحاب من الشمال السوري، لأن هذه المنطقة هي التي جعلتها لاعبا استراتيجيا في الملف السوري وتأثيراته الإقليمية. وتصريحات وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو حين قال «إن تركيا تؤكد مرارا عزمها نقل السيطرة في مناطق وجودها حاليا، إلى سوريا حال تحقق الاستقرار السياسي، وعودة الأمور إلى طبيعتها في البلاد». يعني أنّ الانسحاب التركي من الشمال السوري مرتبط بالحل السياسي النهائي في سوريا. بالمحصلة، نتائج الانتخابات الرئاسية التركية المقبلة سيكون لها انعكاس مباشر على التموضع التركي في سوريا، وعلى مستقبل العلاقات السورية التركية. وهو ما يفهم من تصريح الرئيس التركي مؤخرا، بأن بلاده قد تعيد تقييم علاقاتها مع النظام السوري بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة.
كاتب تونسي