بكر أبوبكر
وقع بين يدي مقالين هامين من مركز مدار للدراسات الإسرائيلية حول تصريحات نتنياهو، وصيرورة الحرب والعدوان على فلسطين بخرق رئة فلسطين الجنوبية في غزة، وفي الشمالية بالضفة، واستوقفتني الإشارة السريعة للأستاذ أنطوان شلحت عن “حرب الأنصار” أوما سميت بتطويرات لاحقة الحرب الشعبية أو حرب العصابات أو حرب الغِوار (أنظر مباديء حرب الغوار لأرنستو غيفارا، وتجربة الثورة الكوبية)، فكان لي من التأمل اكتشاف أسبقية الروائي “تولستوي”! في التعامل مع الموضوع والمصطلح، وبعض التفكرات.
حرب الغوار، إنها الثورة أو المقاومة أو الحرب التي طبقت في عديد الثورات في القرن العشرين (الروسية والصينية والكورية والجزائرية والكوبية والفيتنامية…)، ومع إدخالات وتنويعات تعاملت مع الواقع لكل ثورة، ومنها في الثورة الفلسطينية المنطلقة عام 1965 بقيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني-“فتح” والخالد ياسر عرفات، والمتواصلة حتى الآن بأنماط وأشكال إبداعية متطورة كما حصل بالاختراع الفلسطيني البحت أي المسمى “الانتفاضة” الأولى ثم الثانية. وما تلاها من حراكات و”مقاومة شعبية” لم يكن لها أن تتطور حسب المأمول، لتقاعس الكثيرين عن الإمساك بتلابيب المقوّمات المحققة للنصر عوضًا عن تشتت الجهود وتفرق القيادة.
لما كانت الأدبيات الثورية الروسية والصينية والكوبية والفيتنامية تتعامل مع الفكرة كحرب الضعيف أمام القوي، أو القوَى غير النظامية مقابل العسكر المدجج بالسلاح، فآثرنا الرجوع لأصل المصطلح أو الكلمة أي مصطلح “حرب الأنصار”، والذي وجدناه في رواية الحرب والسلم الشهيرة للكاتب الكبير”ليو تولستوي” (1828-1910م) فدخلنا لعمق التاريخ لنضيء على مسار الثورة الفلسطينية بتاريخها الفذ في تعميق وتطبيق مفهوم “حرب الشعب طويلة الامد” أو طويلة النفس كما تراه في أدبيات الثورة الفلسطينية وفي حركة فتح (يوجد كتيبات كثيرة بالحركة حول الموضوع، واليها ما كتبه المفكر منير شفيق، وانظر كتابه علم الحرب، وتجارب ست ثورات عالمية. وأنظر فكرة الحرب الشعبية لماو تسي تونغ)، ما هو تطوير للفكرة الأولية لحرب الأنصار أو حرب الغوار أو حرب العصابات.
لقد كان لهذه الثورة الفلسطينية بقيادة الخالد ياسر عرفات أن غذّت السير بين الأشواك نحو التطبيق الميداني الذي أفرز أشكالًا ونماذج مختلفة تعاطت مع المفهوم الأول أي مفهوم (حرب الأنصار) كما ورد المصطلح ربما لأول مرة كما قلنا مع تولستوي في رواية الحرب والسلم عن غزو نابليون لروسيا عام 1912م.
وفي نبذة سريعة فإن الروائي الروسي الكبير ليو تولستوي ( 1828- 1910) يعتبر من عمالقة الروائيين الروس وهو الى ذلك مصلح اجتماعي وداعية سلام ومفكر أخلاقي، ويعد عند البعض من أعظم الروائيين على الإطلاق، ما ننصح الكوادر عامة بالاطلاع على مؤلفاته وأمثاله لإغناء تجاربهم وتعميق الوعي والاستفادة (بدلًا من قضاء الوقت في ملاحقة مقاطع المرئيات (فديو) التي تأسر العقل وتشتته وتضيع وقته عبثًا وتسبب له الإدمان، ولا تنشيء مرجعية ولا وزن علمي لها).
أشهر أعمال تولستوي روايتي (الحرب والسلام) و (أنا كارنينا) وهما يتربعان على قمة الأدب الواقعي، فهما يعطيان صورة واقعية للحياة الروسية في تلك الحقبة الزمنية البعيدة.
كفيلسوف أخلاقي اعتنق أفكار المقاومة السلمية النابذة للعنف وتبلور ذلك في كتاب (مملكة الرب داخلك) وهو العمل الذي أثر على مشاهير القرن العشرين مثل مهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ في جهادهما الذي اتسم بسياسة المقاومة السلمية النابذة للعنف.
بالاتجاه الآخر من فلسفة تولستوي أخذ النضال الفلسطيني معانيه من استلهام تجارب عديد الثورات العالمية، ومن النموذج العربي الإسلامي في المقاومة، والجهاد، ومن رؤيته الفريدة والواعية للواقع المعقد فأنتج كثير من أساليب النضال المميزة والتي يجب أن تدرس في جميع الكليات بالعالم، حيث الاستفادة أيضًا من سياق التجربة الصهيونية ذاتها التي رأت بالدعم العالمي حبل النجاة القوي الذي لا يجب الاستغناء عنه مطلقًا، إضافة للقوة العسكرية المهيمنة والداهمة بل والمسلحة بالعقيدة الأسطورية الخرافية.
حرب العصابات أو الثورة الشعبية أو حرب الأنصار أخذت معانيها العربية الفلسطينية الإبداعية المتطورة مرتبطة بالتجربة الثرية بأشكال مختلفة ليست عسكرية بحتة فقط.
إن علم السياسة والقائد الذكي ينظر في القوانين المحركة للأحداث وهي المتبدلة عبر العصور، وينظر في المصالح السياسية والاقتصادية للدول وتحيزاتها حتى الأيديولوجية، وينظر في مواقف القوى الكبرى والإقليمية (والعربية) المؤيدة أوالمناهضة. وينظر في أهمية تكتيل الأصدقاء وتحييد الأعداء، ولا يتواني عن معرفة نقاط قوة ونقاط ضعف العدو او الخصم، ونقاط قوة الثورة ونقاط ضعفها، ومعرفة التطورات السياسية وتقلبات الساسة واستثمارها بقوة العمل خلف الخطوط.
إن حرب الشعب من حيث التطوير بالرؤية والمفاهيم داخل الثورة الفلسطينية والقدرة الفذة على الرؤية للمستجد والنظر بالمستقبل هي ثورة أو حرب نضالية فكرية ثقافية (وحرب الرواية) ميدانية سلمية جماهيرية وعنفية. وبخيار تتخذه “القيادة الموحدة” خاصة في قضية (عالمية) معقدة جدًا مثل القضية الفلسطينية.
إن القائد الذكي يعي ويفهم الخيارات وعواقبها. إنه القائد الذكي الذي يقيّم ويقدّر موضع قدميه، ويختار التوقيت المناسب للفعل، أو شكل النضال المطلوب مع الأخذ بالاعتبار قدرة ورؤية الجماهير واستعدادها، وتهيئتها، بل والتعلم منها، وليس إهمالها أو التكبّر عليها فتتحول إما الى عبء أوكتلة من الحنق ضد المقاومة أوالثورة.
القائد الحكيم أو الذكي لا يعمل منفردًا بل يعلم ضرورة الوحدة الوطنية (الفصائلية والجماهيرية والثقافية)، ويعلم أهمية مشاركة قرار الحرب وقرار السلام مع كل القوى (في فلسطين ضمن ضمن منظمة التحرير الفلسطينية وبالأسلوب الديمقراطي) ..الخ، وضمن رؤية المحلل السياسي الذي يفهم التحديات ويرى الفرص فيقتنصها ضمن قاعدة (وأعدّوا) القرآنية بكل جوانبها، فيتقدم أو يتراجع أو ينتقد ذاته في مسار التجربة ويعيد النظر فيغير استراتيجيته أوأساليبه او تكتيكاته، ويظل الهدف بتحرير فلسطين لا يغيب عن باله مطلقًا.