في لحظة مأساوية من تاريخ الشعب الفلسطيني، يخرج علينا فوزي برهوم، المتحدث باسم حركة حماس، ليقول دون أن يطرف له جفن إن “الانسحاب من المفاوضات مطلب وطني وشعبي”، متناسياً أو متجاهلاً حقيقة مرة يعرفها الجميع: أن حركته لم تمثل الشعب يوماً، ولا امتلكت تفويضاً منه، لا في الحرب ولا في السلم، ولا في التفاوض ولا في المساومة. ففي الوقت الذي تئن فيه غزة تحت وطأة المجازر والجوع والحصار، وتحت الرماد الذي تراكم فوق الأرواح والأحلام، لا تزال قيادة حماس تمارس خطاباً مكروراً يفيض بالنرجسية السياسية، تارة باسم “المقاومة”، وتارة باسم “الكرامة”، وتارة باسم “الشعب” الذي لا يسمع له صوت.
من السخرية السوداء أن من أشعل الحرب يزعم اليوم أن الانسحاب من مفاوضات وقفها هو مطلب شعبي، بينما الواقع يصرخ بعكس ذلك. كيف يمكن لمن اتخذ قرار الحرب دون مشاورة أحد، ولمن وضع غزة على فوهة البركان دون خط رجعة، أن يدّعي تمثيل الشعب؟ كيف لحركة حكمت بالقوة، ورفعت شعارات النصر على أنقاض البيوت والمدارس والمستشفيات، أن تعود لتتحدث باسم من شرّدتهم ودفعتهم إلى الجوع والتشرد والموت تحت الأنقاض؟
وإن كان برهوم قد أدرك متأخراً أن نتنياهو يستغل المفاوضات لتثبيت وقائع على الأرض وتمرير مخططاته، فالسؤال الأهم: متى لم يكن يفعل ذلك؟ وهل كان بحاجة إلى عبقرية سياسية خارقة ليُدرك أن الطرف المقابل – المتمثل في قيادة حماس – هو أضعف حلقات اللعبة؟ لقد سقطت كل أوراق حماس السياسية في أول امتحان واقعي، وظهرت على حقيقتها: جماعة تبحث عن صفقة، لا عن حرية؛ عن تثبيت ذاتها في الحكم، لا عن تثبيت الحقوق الوطنية؛ عن ضوء في نهاية النفق يمر عبر القاهرة، لا عبر القدس.
والمفارقة الموجعة أن من كان يصف جولات المفاوضات بـ”مقاومة سياسية”، ومن زعم أنه “يفاوض بقوة النار”، ومن دخل القاهرة رافعاً شعارات النصر فيما كانت غزة تئن، هو نفسه الذي يعود اليوم ليركض هارباً من الطاولة، لا لأن المفاوضات فشلت، بل لأن استمرارها يفضح عجزه وتواطؤه. إذ منذ متى كانت المساعدات الإنسانية – الطعام والماء والدواء – مادة للمساومة؟ متى أصبح الجوع ورقة تفاوض؟ متى أصبحت أرواح الأطفال موضوعاً للمزايدة؟ وحدها سلطة سياسية فقدت بوصلة الأخلاق، يمكنها أن تضع الطعام مقابل الثمن السياسي.
إن المأساة في هذا المشهد ليست في الغباء، بل في الإصرار عليه. ليست في الجهل، بل في العناد المغلف بادعاء الحكمة. فقيادة حماس تدرك جيداً أن نتنياهو يوظف كل تحرك لها، كل تصريح، كل تهديد، وكل صاروخ – حتى إن لم ينفجر – لصالح مشروعه في تدمير غزة وتصفية القضية. ومع ذلك، لا تزال الحركة تمعن في تكرار ذات السيناريو القاتل، وكأنها قررت أن تكون الحليف غير المعلن للاحتلال في تنفيذ مخططاته.
فما الحاجة للصواريخ حين يكون هناك خطاب سياسي أرعن كخطاب حماس؟ وما الحاجة للاجتياح حين تكون القيادة المحلية شريكاً غير مباشر في دفع الناس نحو الجوع والموت؟ إن قيادة حماس – بمراهقتها السياسية وغرورها الجهادي – تحوّلت إلى السلاح السري في ترسانة إسرائيل: لا يحتاج إلى صيانة، لا إلى طائرات، لا إلى دبابات، فقط إلى زر تشغيل يتحكم فيه نتنياهو عن بعد، وكل ما تبقى يتم تلقائياً: إشعال حرب، تعطيل مفاوضات، عزل غزة، وتمرير صفقة.
كل يوم إضافي تبقى فيه هذه القيادة جزءاً من المشهد السياسي، هو يوم جديد من المجازر، ومن الانهيار الكامل لكل ما تبقى من معالم القضية الفلسطينية. فهذه ليست معركة تحرير، بل معركة بقاء سلطوي. ليست مواجهة مع العدو، بل صراع على الشرعية في مشهد منهك وممزق. لقد فُجرت الحرب، واليوم يُراد للذين أشعلوها أن يفاوضوا على إطفائها! أليس هذا هو العبث بعينه؟ من قاد غزة إلى المحرقة لا يملك أن يتحدث باسمها، ومن تلاعب بحياة شعبه لا يمكنه ادعاء البطولة.
لقد اختزلت حماس فلسطين في غزة، واختزلت غزة في حكمها، واختزلت الحكم في بقائها، وهذه هي المصيبة الكبرى. وإذا كان الاحتلال قد دمّر البنية التحتية، فإن حماس دمّرت البنية الأخلاقية والسياسية والنضالية، وأفسحت المجال أمام كل المتاجرين بالقضية ليتحدثوا باسمها.
إن القضية الفلسطينية اليوم لا تحتاج لمفاوضين من هذا النوع، بل لقيادة حقيقية تتحمل مسؤولية الدم والمجازر والجوع، ولا تستعمل الجوع ككارت ضغط سياسي. حماس ليست مؤهلة لا لحرب ولا لتفاوض. ومشكلة غزة الحقيقية اليوم، أنها محاصَرة من الخارج، ومحكومة بالغطرسة من الداخل.
وهكذا، تستمر المأساة، ويتواصل الانهيار، وتُكتب فصول النكبة بأيدٍ فلسطينية هذه المرة، تحت شعارات المقاومة التي تحولت إلى أقنعة تخفي خيانة الواجب الوطني والأخلاقي. لقد آن أوان الرحيل. فمن خسر الحرب لا يفاوض على شروط الهزيمة، ومن احترق شعبه تحت القصف لا يطالب بحصة في الطاولة، بل ينسحب، يصمت، ويحاسَب.