حماس في مواجهة الحقيقة المُرّة… من يُنقذ مَن؟

المستشار د. أحمد يوسف

إنَّ كثيرًا من الكُتّاب والمحلِّلين في الخارج يُدبِّجون المقالات ويُطلِقون التصريحات عن “عظمة” السابع من أكتوبر، ولِهذا القول وجاهتُه إذا ما صمتنا عن التبعات وتجاوزنا العواقب التي صاحبت تلك العملية في سياق الكارثة والابتلاء.
غير أن النخب الفلسطينية من النازحين لها رأيٌ آخر، ينطلق من مآلات هذه الحرب وما حملته مشاهدها من إبادة جماعية وتطهير عرقي. ولذلك، يتردّد على ألسنة الكثيرين منهم القول الدارج: “اللِّي إيدُه في الميَّا مش زي اللِّي إيدُه في النَّار”، أو كما نقول في أمثالنا الشعبية: “ليس الحريق كالغريق”.
والسؤال الذي يطرح نفسه –وهو الأهم–: كيف يرى النازحون في الخيام ما يجري في مصر وقطر من مفاوضات؟ وما الذي يرشح لهم عن أسباب فشلها طوال هذه الشهور؟
إنَّ ما يتناقله النازحون –وفق ما يتاح لهم من رؤية، أو ما يصلهم عبر المجالس ووسائل التواصل الاجتماعي– أن حماس ومفاوضيها هم المسؤولون عن الفشل في التوصل إلى حلٍّ إنساني يوقف هذه الحرب. ورغم قناعتنا بعدم صدقية هذا الادعاء، فإن إطلاقه على عواهنه لا يخدم مصلحة شعبنا، بل يمنح نتنياهو ذريعة لتبرير مخططاته، وهو الكذوب.
النخب الفلسطينية –وعلى قلّة ما تتحدث به– تُدرك أن نتنياهو هو المعطِّل لأي اختراق في المفاوضات، لأن مصالحه الشخصية وأهدافه الاستراتيجية تحتاج إلى المزيد من الضغط والوقت لتحقيقها. وعليه؛ فإنه يضع العتلة –بخبث ودهاء– أمام عجلات القطار ليوقف مسيرته، فيُظهِر أن العلّة في حماس ووفدها المفاوض.
بعض الأصوات تتهم حماس بالعجز عن فهم قواعد اللعبة التي يُديرها نتنياهو والحلف الغربي المتواطئ معه، ولا سيما أمريكا واللوبي الصهيوني الممسك بزمام السياسة الأمريكية، والذي يعمل لصالح إعطائه كل الوقت لتحقيق “حلم إسرائيل الكبرى”، في ظل ظروف مواتية جعلت العرب والمسلمين والغرب يقفون –في معظمهم– ضد حماس ومستقبل وجودها كقوة سياسية وعسكرية في المنطقة. وهكذا وجدت الحركة نفسها –للأسف– محاصَرة بحلفٍ يتواطأ لمنع استمرارها!
الإشكالية اليوم أن حماس لم تُدرِك بعد أن حلفاءها السياسيين –كتركيا وإيران وقطر– قد جرى تحييدهم بفعل التهديدات الأمريكية. أما الشعوب التي لطالما تعلقت آمالها بالحركة وزلزلت الأرض بهتافها لها، فقد شُلّت ألسنتها وأصابها الصمم والعمى، ولم يعُد أكثرهم –تحت وطأة الصدمة– يَعقِلون.
وعليه؛ فإن حالة التيه التي أصابت وجدان الأمة تدفعنا إلى رفع الصوت عاليًا: ما الذي تُراهِن عليه حماس من وراء هذا التسويف بتمديد المفاوضات، مهما كانت الملاحظات أو الاستدراكات؟
في الحقيقة؛ لقد أخطأت حماس حين لم تُودِع الملف –منذ البداية– بين أيدي الإخوة في مصر وقطر وتركيا، ليضعوا استراتيجية تفاوضية تُحبط ألاعيب نتنياهو وحلفائه من الصهاينة المتطرفين. لقد كان إصرار الحركة على إدارة الملف بنفسها –أو بالاشتراك مع فصائل فلسطينية لا تملك حيلة ولا قوة– مع التجاهل لمكانة منظمة التحرير كشريك وطني استراتيجي له مشروعيته السياسية وواجهاته الدبلوماسية المعترف بها في أكثر من 140 دولة حول العالم، تفريطًا بخيارٍ لو وُضع في ميزان التفاوض لما أمكن تهميش نتائجه. وهكذا نجح نتنياهو –للأسف– في التلاعب بنا، وتحميلنا كامل المسؤولية عن إخفاق المفاوضات في أن تؤتي أُكُلها بالتعجيل بوقف الحرب.
من هنا، يأتي دورنا في التذكير حين تغيب القدرة على السيطرة أو التوجيه. ولذلك، فإن نصيحتي لإخواني في حركة حماس؛ قيادةً وكوادرَ: إن الوقت لا يعمل لصالحنا كحركة أو كحكومة، فكل الشواهد تؤكد أن مجرم الحرب نتنياهو هو المستفيد الوحيد –حتى الآن– من استمرار الحرب، وإبقاء يده طليقة للمضي في مخططاته للتهجير القسري.
لا شك أن اللعبة أكبر من حماس، وإن كانت ذريعة استمرارها –كما يزعم نتنياهو– هي ما بيد الحركة من الرهائن الإسرائيليين.
إخواني في قيادة حماس؛ لقد أخطأتم في تقدير حجم المؤامرة على شعبكم وقضيتكم الوطنية، وتمَّ استدراجكم إلى خطيئة الحرب وخدعتها، بغض النظر عن تقديراتكم لجدوى ما قمتم به في السابع من أكتوبر 2023.
اليوم هناك ربع مليون ما بين شهيد وجريح ومفقود، ومليونا نازح تطاردهم سياسات القتل والتجويع والحصار، وسط مخاوف التطهير العرقي والتهجير القسري. كل يوم يسقط عشرات الشهداء ومئات الجرحى، ضحايا البحث عن لقمة عيش كريمة في ما يُسمى بـ”المساعدات الإنسانية”، أو في “مصائد الموت” اللا إنسانية. ومئات المنازل تُسوَّى بالأرض يوميًا، ليغدو قطاع غزة –بعد حين– قاعًا صفصفًا بلا مقومات للحياة أو العيش الكريم، ولا حتى أرضية آمنة تصلح للتعشيب والبقاء.
إن صرخة النازحين إلى حماس واضحة: اللعبة أكبر منكم، فلا تُظهِروا أنكم تُحقِّقون إنجازًا بإطالة أمد المفاوضات، والرهان على مجهول أو انتظار معجزة تُغيِّر من واقع الكارثة التي نعيشها. فنحن اليوم في عالم تحكمه شريعة الغاب، وتتحكم في مساره أيديولوجيات المصالح الاستعمارية وحساباتها الظالمة.
وفي ظل اختلال موازين القوى لصالح إسرائيل، وتحالفها العسكري والأمني والإعلامي مع أمريكا بما تمثله إدارة الرئيس ترامب ودولته العميقة من الإنجيليين المتصهينين، فإن علينا أن نتدبّر أمر وجودنا بالحكمة وبسياسة التخذيل، وألا نتعلق بالنواميس لتعمل لصالحنا ونحن لا نفقه مكنون أسرارها.
لقد تأخرت حماس كثيرًا في اتخاذ القرار الصائب بدعوة مصر وتركيا وقطر ومنظمة التحرير لوضع الملف كله بين أيديهم، وتفويضهم باتخاذ القرار الذي يوقف الحرب ويمنع التهجير القسري والإبادة الجماعية، ويحمي ما تبقى من رمق حياة لشعبنا.
إن علينا كشعب فلسطيني أن ندرك –بوعي كامل– أننا مستهدفون في وجودنا وتاريخنا ومقدساتنا، وأن حركة حماس –كواجهة نضالية– لم تكن إلا مجرد غطاء اتخذه نتنياهو لتمرير مخططه الاستعماري من وراء هذا الاستهداف. إن الكل الفلسطيني لا يَخفى عليه أن الخلاص في حماية ما تبقى ليس بيد حماس وحدها، بل لا بدَّ من التسليم بأن منظمة التحرير –كإطار شرعي معترف به دوليًا– يتوجب تفعيله ودفعه لأخذ دوره بمعية دول أمتنا الكبرى –كمصر وتركيا وقطر– لتشكيل آلية رؤية وحراك أممي يطرح حلاً يُبدِّد أطماع نتنياهو، ويسد باب الذرائع أمام ما يطارده من أحلام وأوهام “إسرائيل الكبرى”.