حملة «أيها المواطن.. تحدّث باللغة التركية»

توران قشلاقجي

لا يعرف سكان العالم العربي الكثير عن التجارب والتحديات التي عاشها الشعب التركي خلال القرن الماضي، ومعظم الأمور التي يعتقدون أنهم يعرفونها هي في الواقع مجرد إشاعات. وأولئك الذين ينزعجون من الخطاب العنصري المنتشر داخل المجتمع التركي في يومنا الحالي، سوف يرون مدى ضآلة معرفتهم بطبيعة هذا المجتمع، عندما يطلعون على ما عاشه قبل 90 عاما، حيث كانت العنصرية في أشد مستوياتها.
بعد الانقلاب اللغوي (أو ثورة الحروف) الذي شهدته البلاد عام 1928، انتقل الشعب التركي من استخدام الحروف العربية إلى استخدام الحروف اللاتينية بين عشية وضحاها. وتم حظر جميع الكتب المؤلفة باللغة العثمانية، ثم بدأت السلطات بمصادرة هذه الكتب من المنازل، لتحرقها وتفرض غرامات مالية على أصحابها. كما قامت بتتريك الأذان، أحد أهم رموز الدين الإسلامي، وقررت رفعه باللغة التركية بدلا من العربية.

كانت جميع اللغات خارج التركية تصنف ضمن تعريف واحد، وهو «اللغة الأجنبية». ومُنع المتحدثون بغيرها من استخدام لغتهم الأم في الأماكن العامة وغير الخاصة

وبالتوازي مع تلك الإجراءات، أطلق طلاب من كليات الحقوق حملة واسعة في عموم تركيا تحت عنوان «أيها المواطن، تحدّث باللغة التركية»، بتاريخ 13 يناير/ كانون الثاني عام 1928. هذه الحملة المدعومة من الحكومة في تلك الفترة انتشرت على نطاق كبير طيلة ثلاثينيات القرن الماضي، وكانت تهدف إلى حرمان أبناء الأقليات في البلاد من التحدث بلغاتهم الأم. لقد استهدفت الحملة في البداية الأقليات الناطقة باللغات الرومية والأرمنية واليهودية – الإسبانية، لكنها شملت لاحقا المواطنين الذين يتحدثون العربية والكردية أيضا. وشهد العديد من الولايات مسيرات طلابية مدعومة من الدولة في إطار حملة «أيها المواطن، تحدث باللغة التركية»، ورفع خلالها الطلاب المشاركون لافتات كتبت عليها عبارات مفادها «أيها المواطن؛ إذا كنت تركيا، فتحدّث بالتركية»، و»من يحب التركي، يحترمه ويتحدث بالتركية»، و»التحدث بلغة غير التركية يؤذي كل تركي». كما فرضت الحكومة وقتها غرامات مالية على المواطنين الذين يتحدثون بغير اللغة التركية في بعض الولايات، بل تعرض البعض لعقوبة السجن وطُرد آخرون من وظائفهم. ولا شك في أن مشروع القانون الذي طرحه النائب عن حزب الشعب الجمهوري صبري توبراق، بتاريخ 27 ديسمبر/ كانون الأول عام 1937 بشأن «معاقبة الذين يستخدمون لغة أجنبية بدلاً من اللغة التركية الوطنية»، يعد من أهم الأمثلة التي تجسد روح تلك الفترة، رغم عدم اعتماده بصورة رسمية. لم يكتسب المشروع المذكور طابعا قانونيا، لكن ذلك لا يعني أنه كان مرفوضا لأنه لولا تطابق تلك الرؤية مع الروح السائدة في البلاد آنذاك، لما تجرأ توبراق على اتخاذ مثل هذه الخطوة. فتلك الفترة كانت تسمح فقط بطرح مشاريع القوانين التي تناسب روحها ولا توجد قرائن تشير إلى عكس لذلك. علاوة على ذلك، كانت جميع اللغات خارج اللغة التركية تصنف ضمن تعريف واحد، وهو «اللغة الأجنبية». وكان الهدف الحقيقي لمشروع القانون المذكور هو منع المتحدثين بغير اللغة التركية من استخدام لغتهم الأم في الأماكن العامة وغير الخاصة، وحتى بين الأصدقاء وأفراد الأسرة الواحدة. ورأى صاحب المشروع أن مثل هذا الأمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال فرض الغرامات المالية، أو عقوبة السجن. لكن كانت هناك حاجة إلى عدد كافٍ من المخبرين والجواسيس، للقبض على من يخالف هذه القاعدة. وأخذ ذلك في الاعتبار أيضا، حيث قُدمت وعود للمخبرين بمكافأة مالية على كل واقعة يكشفون عنها. وبجانب ذلك، تم تحديد سقف مرتفع للغرامات المالية لتشجيع الموظفين المعنيين بفرضها، وليس فقط لردع المخالفين. وتضمن المشروع كذلك عقوبات قاسية على الموظف الذي يمتنع عن فرض تلك الغرامات.
خلاصة الكلام؛ استمرت هذه الممارسات في تركيا حتى تسعينيات القرن الماضي. ووصل الأمر إلى درجة مقاطعة مكالمات الناس في الهواتف من قبل الموظفين المراقبين، لإجبارهم على التحدث باللغة التركية عند رصد الأحاديث باللغات المحلية الأخرى، لاسيما بعد الانقلاب العسكري عام 1980. وتوقفت هذه الحملة بعد وصول حزب الوطن الأم إلى السلطة بقيادة تورغوت أوزال، إبان التسعينيات، وأتيحت للمواطنين إمكانية التحديث بلغاتهم المحلية. وفي عهد حزب العدالة والتنمية الحاكم حاليا، ألغيت تلك الممارسات بالكامل، وأصبح بإمكان المواطنين التحدث بلغاتهم الأم بكل سهولة. وأثبت الحزب للجميع أن مثل هذه الإجراءات ليست صائبة، ثم بدأ بفتح قناة رسمية ناطقة باللغة الكردية وإصدار مؤلفات محلية بمختلف اللغات. بعبارة أخرى، يمكننا القول إن الخطاب العنصري في تركيا تراجع إلى مستويات متدنية للغاية في يومنا الحالي، مقارنة بما كان عليه في السابق.