سياسات التوظيف وأزمة الدولة العراقية

يحيى الكبيسي

في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وبعد أسبوعين فقط على تسلم الحكومة العراقية الجديدة مسؤولياتها، قلنا في مقال بعنوان «سياسات التوظيف ورشوة الجمهور» إن التوظيف في القطاع العام في العراق لا يخضع لأي استراتيجية أو معايير تتعلق بالسياسات العامة للدولة، بل يقوم على قرارات ارتجالية وشعبوية هدفها الرئيسي صناعة جمهور زبائني للفاعلين السياسيين ودكاكينهم السياسية. وإن السلطتين التشريعية والتنفيذية شركاء متضامنون في تبني هذا النموذج دون الالتفات إلى المعضلات الاقتصادية التي تتسبب بها سياسة الإغراق الوظيفي هذه!
وقد وضحت الأرقام المتعلقة بالموظفين العموميين الرسميين، أن أعدادهم قد تضاعفت أكثر من ثلاث مرات خلال 18 عاما (2003 ـ 2021)، يضاف إليهم مئات الآلاف من المتعاقدين والعاملين بأجر يومي لا يمكن الوقوف على أعدادهم الحقيقية بسبب اللاشفافية التي تحكم هذا الملف.
أصدر مجلس الوزراء عام 2019 القرار المرقم 315 لحل مشكلة العاملين بصفة عقد في المؤسسات الحكومية، وطالب القرار ديوان الرقابة المالية بحصر أعداد العاملين بعقود وبأجر يومي في موعد أقصاه 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 «بغية إنجاز الإحصاء التام لأعداد العاملين» كما نص القرار.
لكن القرار ترك ثغرة اُستغِلَّت لمزيد من التوظيف، فقد تضمن القرار فقرة نصت على «إلزام الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارات والمحافظات بعدم تشغيل متعاقدين وأجراء يوميين جدد، لأعمال يمكن أن تعلن للقطاع الخاص بصفة مقاولة»، وهو ما سمح بتعيين عشرات آلاف المتعاقدين والأجراء اليوميين لأغراض زبائنية كالعادة!
فقد كشفت، مثلا، لجنة تحقيقية في وزارة الكهرباء عن تعيين أكثر من 57 ألف شخص بأجر يومي في العام 2019 لوحده، ليتم تحويلهم لاحقا إلى متعاقدين!
وواضح أن هذه المعضلة لم تحل، بدليل إصدار مجلس الوزراء في 14 حزيران/ يونيو 2022 قرارا «بالإسراع في إعداد جرد بأسماء المتعاقدين ممن لديهم خدمة عقدية لا تقل عن سنتين تمهيدا لتثبيتهم»، وهو ما يؤكد أن عملية حصر أعداد هؤلاء لم تحصل مطلقا، مع إقرار إيقاف التعيين بصفة عقد او أجر يومي!
لكن مجلس النواب، أصدر في الشهر التالي، قانون «الدعم الطارئ للأمن الغذائي»، الذي أسميناه حينها بقانون الاستثمار في المال العام، لأنه كان تحايلا صريحا لأغراض صفقات الفساد، وقد تضمن فقرة تتيح «التعاقد» مع 18 ألف موظف جديد، بواقع ألف متعاقد لكل محافظة، كجزء من رشوة الجمهور المعتادة، للتغطية على الأهداف الحقيقية للقانون!
خلال الأزمة السياسية التي شهدها العراق بعد إعلان نتائج الانتخابات المبكرة عام 2021، قلنا في أكثر من مقال نشر قبل تشكيل الحكومة العراقية، إن سياسة التعيينات ستكون أحد الوسائل الرئيسية لرشوة الجمهور، لكن هذه المرة ليس للأغراض الزبائنية التقليدية وحسب، بل لأغراض سياسية بحت، تتعلق برشوة مباشرة لمنع احتجاجات محتملة، أو تقليل زخمها على الأقل!

سياسة التعيينات ستكون أحد الوسائل الرئيسية لرشوة الجمهور، لكن هذه المرة ليس للأغراض الزبائنية التقليدية وحسب، بل لأغراض سياسية بحت، تتعلق برشوة مباشرة لمنع احتجاجات محتملة، أو تقليل زخمها على الأقل!

وهذا ما يحصل الآن تماما، ففتحُ باب التعيينات على مصراعيه سيؤجل إلى حين أيّ احتجاجات محتملة، ويفشل نسبيا أية احتجاجات قد يقرر الصدريون القيام بها. إلا إذا حدث متغير غير متوقع، مثل زيادة معدلات التضخم وخروجها عن معدلاتها الحالية (ثمة بوادر على ارتفاع غير مسيطر عليه لسعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي، بعد قرار الفيدرالي الأمريكي بفرض نظام سويفت على التحويلات المالية العراقية لمنع غسيل الأموال من جهة، ومنع إيران من الحصول على الدولار الأمريكي النظام المصرفي العراقي البدائي).
فمن الواضح أن ثمة قرارا اتخذه الإطار التنسيقي، وتنفذه الحكومة، يقضي بتعيين مئات آلاف المتعاقدين والأجراء اليوميين بشكل رسمي، دون دراسة المخاطر التي ستترتب على هكذا قرار!
فقد أعلن رئيس مجلس الوزراء العراقي في مؤتمر صحافي، يوم 12 كانون الثاني/ يناير 2023 عن ارتفاع تكلفة الرواتب في الموازنة العامة للعام 2023 من 41 ترليون دينار (28.2 مليار دولار بسعر الصرف الرسمي تقريبا) إلى 62 ترليون دينار (42.7 مليار دولار)، ولم يوضح ماهية هذه الأرقام، وهي، إن صحت، فإنها ستعني أن الموظفين العموميين سيزدادون في العراق بنسبة لا تقل ثلث عدد العاملين حاليا، لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن حجم الرواتب للمعيَّنين الجدد تقل كثيرا عن معدلات الرواتب بسبب سنوات الخدمة! فاذا ما عرفنا أن عدد الموظفين الرسميين/ الملاك في موازنة العام 2021، قد بلغ ثلاثة ملايين ومائتين وأربعة وستين ألف موظف (لم يتم تشريع قانون موازنة للعام 2022)، فهذا يعني حسابيا أن عدد الموظفين الجدد الذين سيتم تعيينهم لن يقل عن مليون ومائة ألف موظف رسمي جديد!
في كانون الأول/ ديسمبر 2020، وبسبب انخفاض أسعار النفط وعجز الموازنة الحاد، قررت الحكومة العراقية إجبار البنك المركزي العراقي على تخفيض قيمة العملة أمام الدولار لتخفيض النفقات، ومن بينها الرواتب التي عليه أن يدفعها للموظفين بنسبة تصل إلى 21.8٪ (ارتفع سعر صرف الدولار من 1.19 إلى 1.45)، وهي خطوة أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم بشكل قياسي حينها (القانون يُنيط بالبنك المركزي حصريا «صياغة السياسة النقدية وتنفيذها في العراق» وهو ما لم يتم الالتزام به).
ولا تلتفت الحكومة العراقية اليوم، كما يبدو، إلى تحذيرات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المتعلقة بالتوسع المرضي للوظائف العمومية، لأن الحكومة تعتقد أن الوفرة المالية التي حققها ارتفاع أسعار النفط تجعلها، مؤقتا على الأقل، غير مضطرة للالتفات إلى هذه التحذيرات. والأخطر من هذا، حقيقةً، أنها لا تلتفت إلى واقع الركود العالمي وموجة التضخم المرتبطة به، وانعكاسات ذلك كله على سعر النفط؛ فصندوق النقد الدولي توقع في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أن ينخفض النمو العالمي إلى 2.7٪ في العام 2023، ثم تحدث، في الشهر اللاحق له، عن توقعات «أكثر كآبة»! أما البنك الدولي ففي تقرير له صدر يوم الثلاثاء 10 كانون الأول/ يناير، أشار إلى نسبة نمو عالمي لا تتجاوز 3٪ في العام، 2023 وهو مؤشر على الاقتراب من حالة الركود العالمي!
لا توجد وصفة للخراب أفضل من الشعبوية والارتجال، لاسيما في دولة ينهشها الفساد، و يحدد صندوق الانتخابات وحده طبيعة السياسيات التي يتم تبنيها!

كاتب عراقي

شاهد أيضاً