صرخة أوروبا، ليست صحوة ضمير، بل وداع للنفوذ الضائع

إبراهيم عجوة

ما نراه اليوم من تصعيد أوروبي في اللهجة تجاه إسرائيل، من بروكسل إلى دبلن، ومن مدريد إلى أوسلو، ليس انقلابًا أخلاقيًا، ولا صحوة ضمير فاجأت التاريخ. إنه صدى ارتطام جيوسياسيّ متأخر، تُعبّر فيه أوروبا عن فجيعتها ليس بما يجري في غزة، إنما بما يجري على الخريطة، تلك الخريطة التي رسمتها قبل قرن بالحبر والبارود، فإذا بها اليوم تُمحى على يد من كانت تراهم أدواتها. أوروبا ليست غاضبة لأن إسرائيل قَتَلت، فقد صمتت عن ذلك سبعة عقود، ولا لأنها دمرت غزة، فذاك ما كانت تُبرره كلما احتاجت واشنطن إلى غطاء. أوروبا غاضبة لأن إسرائيل، لأول مرة، بدأت تلعب خارج الدور المرسوم لها: تُفكك النفوذ الأوروبي في المشرق،
وتخترق النسيج الناعم من فرنسا حتى قبرص، وتُمهّد لتحوّل استراتيجي يُفرغ الفضاء المتوسطي من كل أثر أوروبي، ليُعاد تعبئته وفق المصلحة الأميركية الخالصة.
لقد أرادت أوروبا لحماس أن تبقى أداة فوضى منضبطة، لا أن تتحوّل إلى ذريعة لردّ صهيوني يقلب الطاولة كلها. وأرادت للممانعة العربية أن تبقى عصية على التفكيك، فلا تُفتَح المنطقة دفعة واحدة أمام الذراع الأميركي. لكن إسرائيل، بطريقتها الباطشة والفجة، سحبت الغطاء. مزّقت ما بقي من “التوازنات الأوروبية”، وأحرقت أدوات الضغط الناعمة، وأطلقت العنان لفراغٍ لا تُجيد أوروبا ملأه، بينما تتقنه واشنطن ببراعة منقطعة النظير. وهكذا، تفاجأت باريس ولندن بأنهما باتتا خارج اللعبة. فلا نفوذ في الضفة، ولا قدرة على التهدئة في غزة، ولا حصة في ترتيبات ما بعد النار.
كل الطرق التي كانت تمرّ عبر برلين وروما وبروكسل، أُعيد توجيهها لتصبّ في “البنتاغون” و”وول ستريت” و”تل أبيب”. ولهذا، فإن التصعيد الأوروبي ليس صرخة في وجه إسرائيل، بل صرخة في وجه الغياب. إنه إعلان عجز، لا موقف. وداعٌ غير معلن لما بقي من حلم الدور المستقل. هو، ببساطة، صدى صوت القوى التي أدركت متأخرة أن الزمن الذي وُلد في سايكس بيكو، يُدفن اليوم في شوارع خان يونس ورفح. وإذا كانت أمريكا تقول علنًا: “نحن نملأ الفراغ”، فإن أوروبا، في عمقها، تهمس بأسى: “لقد أخطأنا التقدير والفرصة.”
أوروبا لا تبكي على الموتى، بل على زمنٍ كانت فيه اللاعب الأول. تنظر إلى أمريكا وهي تملأ الفراغات بكل جرأة، وإلى إسرائيل وهي تهدم ما تبقّى من “نظام بترتيبات اوروبا”، وتدرك أنها لم تعد فاعلة، بل مُشاهدة.
هذه صرخة وداعٌ لسايكس وبيكو وهم يرون خريطتهما تُطوى في أدراج التاريخ، ويُكتب مكانها بخط أميركي: “نحن الآن نملأ الفراغ.”

إبراهيم_عجوة