تلقّى الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في سباق الانتخابات الرئاسية، دفعة قويّة إلى الأمام، بعد محاولة الاغتيال الجسدي الفاشلة التي تعرّض لها، وعزّزت سرديَّتهُ بشأن استهدافه، ليس فقط من الديمقراطيين، بل من الدولة العميقة أيضاً، التي يعتبر نفسه أتى من خارجها سابقاً إلى سدّة الحكم. وسواءٌ أكان بريئاً بالفعل من التهم الجنائية الموجّهة إليه أم لا، فإنّ ذلك لا يلعب كبيرَ دورٍ في قرار الناخب الأميركي الأبيض. ثمّة إحساسٌ لدى هذه الفئة الوازنة من الأميركيين بأنّ هذا الشخص، الذي يمثّل النموذج الأميركي الصرف بحديثه البسيط، المباشر والصريح، بمخاطبته عموم الناس بلغتهم، باستخدام العبارات التي يفهمها أغلبُهم كما هي، بعيداً عن لغة السياسة حمّالة الأوجه والتفسيرات، بأنّه كان مُستهدفاً بالفعل لأنّه أتى من خارج منظومة الحكم، ولأنّه بنى نفسه من دون المرور بدائرة الانتفاع من مؤسّساته.
هنا تحضر تفسيرات غوستاف لوبون لسيكولوجية الجماهير، التي تبحث عن قائدٍ ملهم، فالجمهور كما يصفه لوبون ليس أذكى من الفرد، فلا مقارنة بين عبقرية فولتير وأيّ جمهور بشري على الإطلاق، ويعود ذلك برأيه إلى أنّ الجمهور يمتلك خصائص ليست متأتّيةً من حاصل جمع خصائص أفراده، بل هي، في أحيانٍ كثيرة، معاكسة لها. الجمهور في كثيرٍ من حالاته، وفق لوبون حركيٌّ، مزاجيُّ، عاطفيٌّ تقوده الحماسة، حتّى إنّ أفراده يصبحون، في لحظة ما، مُستعدِّين للتضحية، ليس فقط بمصالحهم، بل بأرواحهم عندما يكونون ضمن بوتقة واحدة تصهرهم وتصنع منهم القوّة الطاغية التي لا رادّ لجموحها. قد يُؤثّر انسحاب الرئيس بايدن من السباق الانتخابي لصالح نائبته، كامالا هاريس، في الصورة العامة، خصوصاً أنّ التنوّع الأميركي واسع إلى درجة تجعل من الصعب احتواء خيارات الناخبين بين حزبين فقط، لكن، لا أحد يعرف بالضبط أين تكمن عناصر المفاجآت الانتخابية.
سيتغيّر المشهد السياسي العالمي مع قدوم ترامب الأكثر ترجيحاً حتى اللحظة. سيبدأ بخطواتٍ واضحة قد لا تُرضي شركاءه الأوروبيين في ملفّات عالمية شائكة مثل الحرب الروسية الأوكرانية. سيعطي الضوء الأخضر لإسرائيل في حربها ضدّ غزّة، بغضّ النظر عن الحكومة التي تقودها، وسيدعم بنيامين نتنياهو بشدّة، إن بقي الأخير رئيساً للوزراء، في أيّ حربٍ يخوضها ضدّ حزب الله والأذرع الإيرانية، بل قد يسمح له بضرب إيران ذاتها إن اقتضى الأمر. سيكون قدومه كابوساً مُرعباً للفلسطينيين، فلا ننسى أنّه من نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وهذا ما لم يُقدم عليه أيُّ رئيس أميركي سابق. هنا، تظهر عناصر التطرّف وبذور الديكتاتورية الفردية والصفات الشخصية المتقاربة، المساند بعضها بعضاً، بأوضح أشكالها، فالودّ والاحترام المتبادل بين ترامب وفلاديمير بوتين وبنيامين نتنياهو، وحتّى كيم جونغ أون، ليست قضايا عابرة، بل هي محدّدات شخصية تجد نوازعها في كلّ واحدٍ منهم، وفي مثيلاتها لدى الآخرين. يزعم كاتب هذه السطور إنّ ترامب يُحدّث نفسه في لحظات صفوٍ داخلية مُستغرباً من عدم قدرته على البقاء حاكماً مدى الحياة مثل بوتين أو كيم، أو عدّة دورات مثل نتنياهو، فشخصية الرجل تَشي بأكثر ممّا يتفلّت من تصرّفاته وكلامه، ولولا الضغط الهائل المُمارس عليه من مؤسّسات الدولة الراسخة لكنّا رأينا العجب العُجاب منه.
سيغيّر ترامب من النهج الراهن في التعامل مع روسيا، واعتبارها العدو الأول، ما يصبّ، في النتيجة، في صالح الصين، سيتابع دعم مشروع “طريق التوابل” الذي ينطلق من الهند ويمرّ عبر الشرق الأوسط ليصل ختاماً إلى أوروبا، ليُحجِّم به مشروع الصين العظيم، أي مبادرة الحزام والطريق. قد يدعم أيضاً مشروع “طريق التنمية”، الذي يضمّ الإمارات وقطر والعراق وتركيا، فهو يسحب، في النهاية، بعض عناصر الزخم الصيني المتمدّد عبر القارّات. كذلك سيكون له من إيران مواقفَ أكثر شدّة ممّا سبق واتخذ في دورته الرئاسية الأولى، فإيران كانت على الدوام أقرب إلى الديمقراطيين، ولا ننسَى أنّ أوباما قد ضحّى باستقرار الشرق الأوسط كلّه في سبيل عقد اتفاق نووي معها، فكان نهجه السبب الرئيس في تمدّدها عبر أربع دول عربية سيطرت عليها فعلياً وصادرت قراراتها. وعلى النقيض من ذلك، كانت علاقة الحكم في دول الخليج العربي، وخاصّة في السعودية، أقرب إلى الجمهوريين، فاهتمامات الأخيرين وخطابهم أقلّ نزوعاً للتنظير والوعظ الأخلاقي الأجوف في مستوى السياسات الداخلية للدول والأنظمة الحليفة، ما يشكّل عناصر قبولٍ نفسيّ أكبر للجمهوريين بينهم لا تتوفّر للديمقراطيين. يُؤكّد ذلك كلّه فتور العلاقة بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الحالي بايدن، الذي أجبرته الظروف على زيارة المملكة، رغم تصريحاته السابقة القاسية بحقّ المملكة وقيادتها.
يوصَف ترامب بأنّه رجل الصفقات لا الحروب، وأغلب الظنّ أنّه كان سينسحب من أفغانستان لو فاز بولاية ثانية، لكنّه كان سيجني ثمن الانسحاب بشكل مُؤكّدٍ من عدّة أطرافٍ، بعضهم الشركاء الأوروبيين والعرب، وحتّى الخصوم الروس والصينيين، على عكس ما فعلت إدارة بايدن. قد ينسحب ترامب من العراق وسورية إذا لم تبدأ إسرائيل حربها الأوسع على إيران وأذرعها في المنطقة، وقد صرّح سابقاً برغبته هذه، وسحب بعض الجنود من سورية. وتربط ترامب بالرئيس التركي رجب طيّب أردوغان علاقة جيّدة، فثمّة عناصر كثيرة مشتركة بين الرجلَين، وإضافة إلى ذلك، ثمّة مصلحة مشتركة بتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة وتبريد ساحات الصراع في آسيا عند الحدود الروسية، وهذا يُعزّز من صداقته لبوتين، الذي أبدى إعجابه به مرّات عديدة. سيستثمر ترامب التوتر الكبير في العلاقات الإيرانية التركية وصراع المصالح الإقليمية وسباق النفوذ. كذلك سيستثمر رغبة الحكومات العربية ومصالحها في تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة. سيجني كثيراً من الفوائد بربط المخاوف العربية بالتركية ليحاصر إيران في المنطقة كلّها. قد يذهب إلى منح تركيا مكافأةً ثانيةً في مناطق شمال شرقي سورية، وقد تدفع أثمان ذلك، ليس الإدارة الذاتية والمشروع الكردي القابع خلفها فقط، بل سورية كلّها.
ستستفيد روسيا من إضعاف إيران في المنطقة عموماً، وفي سورية خاصّة، وقد يكون الشمال السوري كلّه جائزة مشتركة للروس والأتراك إذا أخذ ترامب من بوتين بعض التعهدات فيما يخص وقف الحرب في أوكرانيا، وعدم التصعيد تجاه الأوروبيين الذين لن يكونوا مرتاحين لقدومه مُجدّداً رئيساً لحليفتهم الأقوى في وجه الروس.
سورياً، يمكن أن تنتهي المساومات والمسارات الترامبيّة في هذه الصعد كلّها إلى نتائج تخدم نظام الأسد من حيث لا يحتسب، فرغم التضييق الكبير المتوقّع على الإيرانيين، سيكون لتقوية الروس ومنحهم التفويض بإنهاء الأزمة أثر مباشر على نهج التطبيع السائد تجاه النظام. لكن ليس بالضرورة أن يتمّ ذلك بشكل تلقائي، فالوجود التركي له تأثير أيضاً، كما إنّ مصالح الشركاء العرب ستلعب دوراً في ذلك مهما كان بسيطاً. ستلعب شخصية ترامب ذاتها دوراً مهمّاً في ذلك، فالرجل يحبّ اللعب مع الأنداد، وهو لا يرى في بشّار الأسد إلا ما وصفه به في لحظةٍ تجلٍّ خارجة عن اللياقة الدبلوماسية، لكنّها أصابت كبد الحقيقة في الواقع. قد يشترط ترامب على الروس والأتراك والعرب استبعاد الأسد من المشهد، لا لقناعته بضرورة تطبيق القرارات الدولية، فهو من حاول هدم عديد من مؤسّسات المجتمع الدولي، بل لأنّه يحتقر الأقزام فقط، ولا يرغب بأن يطاوله شخص سبق له وأن وصفه بـ”الحيوان”. ويبقى السؤال الأكثر إلحاحاً بالنسبة لنا سوريين ثائرين في وجه نظام الاستبداد الأسدي: كيف يمكن أن نجلس إلى طاولة المساومات هذه طرفاً له حقوق ومصالح، لا أن نكون كما نحن الآن، الوجبة التي يتقاسمها الحضور؟… الإجابة عن هذا السؤال ليست بالأمر الهيّن، وهي في الأحوال كلّها برسم جميع السوريين والسوريات، وليس المعارضين أو الثائرين منهم ومنهنّ فقط.