بعد عمر استمر قرنا كاملا مات هنري كيسنجر، الأكثر شهرة في الدبلوماسية الأميركية في القرن العشرين، فهو الثعلب الذي أتقن السير بين ألغام الحرب الباردة والأزمات المعقدة بذكاء، ونجح فيما عجز عليه غيره. فقد أنهى كيسنجر حرب فيتنام عام 1973، وأخرج الولايات المتحدة من وحل وأدغال هذا البلد العنيد الذي لم ينكسر أمام الدولة الأعظم. كما نجح كيسنجر في سياسة الانفتاح على صين ماو تسي تونغ الشيوعية الفلاحية، والتي خطت لنفسها منهجا خاصا في الماركسية، كما سكب ماء باردا على الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، ونجح في فتح قنوات مع موسكو لم يستطع من سبقوه في فتحها، ووقع معها اتفاقية سالت (SALT).
وعند الحديث عن هذا الدبلوماسي والسياسي الإستراتيجي، الخبير في جيوسياسة العالم، والذي نظر للتاريخ نظرة فلسفية عميقة وقال مقولته الشهيرة “التاريخ لا يعرف سوى السير إلى الأمام”، عند الحديث عن كيسنجر، لا بد أن تأخذ بالاعتبار الظروف التي صنعته. فهو المولود في العام 1923، من عائلة يهودية ألمانية، يحمل في ذاكرة طفولته فوز هتلر وحزبه النازي في الانتخابات الألمانية في العام 1933. ومن ثم وبعد تصاعد الضغوط على اليهود، هاجر كيسنجر إلى الولايات المتحدة عام 1938. وخلال الحرب العالمية الثانية، وبعد أن حصل على الجنسية الأميركية العام 1943 خدم كيسنجر في الجيش الأميركي وشارك في الحرب كمترجم وعلى ما يبدو في الاستخبارات العسكرية.
من الواضح أنه، المولود بين الحربين العالميتين، وشارك في الثانية، وبسبب أصوله اليهودية الألمانية، قرر أن يفهم العالم وفلسفة التاريخ بشكل أعمق، فدرس في جامعة هارفارد العلوم الإستراتيجية، وجيوسياسة العالم، وبسرعة ولإلمامه العميق بأسباب وعوامل نشوء الأزمات السياسية العالمية ولإمكانية إيجاد حلول لها، أصبح مستشارا للحكومات الأميركية في واشنطن، إلى أن أصبح مستشارا للأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون عام 1969، ومن ثم وزيرا للخارجية عام 1972، وبقي كذلك حتى العام 1977. قيمة كيسنجر لا تقتصر على دوره السياسي، وإنما قيمته الأهم هي في إنتاجه الفكري الإستراتيجي، وما قدمه من فهم أعمق للتاريخ الحديث وكيفية تشكل النظام الدولي في المراحل التاريخية المختلفة بدءا من نهاية القرن التاسع عشر وكيفية تحكم كل نظام بالسياسة العالمية ومقدرات البشرية.
ومع اعتراف العرب والفلسطينيين بأهمية ودهاء كيسنجر، إلا أن هذا الثعلب ارتبط في ذاكرتهم بأنه نجح في منع منظمة التحرير الفلسطينية من فرصة اغتنام نتائج حرب أكتوبر 1973. فقد قال في تصريح علني في أيلول/ سبتمبر 1975 إن واشنطن تدرك أنه لا يمكن الوصول إلى تسوية شاملة في الشرق الأوسط من دون الأخذ بالاعتبار بتطلعات الشعب الفلسطيني، لكنه قال إن بلاده من المستحيل أن تعترف وتتعامل مع المنظمة. والحقيقة أن كيسنجر، ومن أجل التقدم في تسوية بين مصر وإسرائيل، كان قد تعهد لرئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك غولدا مائير بألا تتعامل واشنطن مع منظمة التحرير أو تعترف بها.
وهناك معلومات تسربت في حينه أن كيسنجر قد لعب دورا كبير في إشعال الحرب الأهلية في لبنان في ربيع العام 1975، وإغراق المنظمة في مستنقعها واستنزافها في هذه الحرب. ويتذكر العرب كيسنجر بجولاته المكومية في المنطقة والتي نجح خلاها بفرض سياسة “الخطوة خطوة” وتجزئة الحلول بحيث تكون مع كل دولة على حدة، الأمر الذي قاد في النهاية إلى الحل المنفرد بين مصر وإسرائيل وتوقيع معاهدة سلام منفردة.
ومن اللافت أن كيسنجر لم يكن من المتحمسين لاتفاقيات أوسلو والسلام الفلسطيني الإسرائيلي حتى آخر لحظة في حياته، وأذكر في ربيع عم 2000 عندما نظم مركز بيريس للسلام زيارة لحوالي 150 شخصية عالمية من ضمنهم كيسنجر لدعم السلام، فإن هذا الأخير رفض زيارة رام الله وحضور جلسة خاصة للمجلس التشريعي الفلسطيني، مؤكدا مرة أخرى أنه مع السلام العربي الإسرائيلي ولكن ليس مع الفلسطينيين ما يؤكد صهيونية هذا الرجل.
كيسنجر، هذا الثعلب الماكر والحاصل على جائزة نوبل للسلام، نتيجة لدوره في إنهاء حرب فيتنام، هو مسؤول عن مقتل عشرات الآلاف في تشيلي بسبب دعمه للنظام بينوتشي الدكتاتوري الدموي، بالإضافة إلى مسؤوليته عن أعمال مشابهة في الأرجنتين.
مات كيسنجر لكنه حفر له اسما في التاريخ كشخصية إستراتيجية من الطراز الأول، ولكن تاريخ هذا الرجل سنقرأه نحن الفلسطينيين بأنه عدو لدود لوجودنا ولحقوقنا الوطنية المشروعة وكان صهيونيا حتى النخاع، بل إنه أكثر صهيونية من الكثيرين من قادة إسرائيل.