السياسي – نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” تقريراً لمراسلها نيل زيبلر من تل أبيب، أشار فيه إلى الطريقة التي حوّلَ فيها ما يسمى مدير الأمن الوطني الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير الشرطة إلى سلاح.
وأشار زيبلر لحادث الهجوم على بن غفير عندما ذهب إلى الشاطئ في تل أبيب، واستُقبل بالسخرية والاستهزاء من المستحمين على الشاطئ وتعرّضه للضرب بحفنة رمال من شابة رمتها باتجاهه. وقد اعتقلت الشرطة التي كانت ترافقه الفتاة واحتجزتها ليلة واحدة، ووجهت لها اتهاماً بـ “الاعتداء على موظف عام”، وهي تهمة تحمل معها سجناً لمدة ثلاثة أعوام.
لكن الحادث يظهر كيف غيّر الوزير القومي المتطرف الشرطة، منذ توليه منصب إدارتها، قبل 20 شهراً، عندما انضم حزبه إلى نتنياهو في الائتلاف الحالي.
ويقول مسؤولون سابقون في الشرطة، ومحلّلون قانونيون وناشطون معارضون للحكومة إن القوة المكونة من 30,000 عنصر تم تسييسها لخدمة أجندة متطرف قومي في مناخ من التوتر ناجم عن الحرب في غزة. ويحذّرون من أن إعادة تشكيل القوة من قبل رجل يخبر الفلسطينيين بفخر أن اليهود هم “أسيادهم” قد تكون له عواقب بعيدة المدى على سلوك الشرطة وسيادة القانون، وحتى الديمقراطية الإسرائيلية.
وقال ديفيد تزور، رئيس الشرطة السابق: “هذا ما نطلق عليه الفيل في دكان الأطباق الصينية. واختاروا مجرماً مداناً وعيّنوه في أقدس أقداس نظام فرض القانون، هذا أمر لا يصدق”.
ومنذ تولي بن غفير قيادة هذه القوة، اتهمت بالتساهل في التعامل مع عنف المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، واتباعها تكتيكات عدوانية ضد المتظاهرين المناهضين للحكومة، والفشل في وقف الهجمات اليمينية المتطرفة على قوافل المساعدات إلى غزة المحاصرة. وفي نفس الوقت حاول بن غفير، ومن طرف واحد، تغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى.
وحتى العام الماضي، نظر للرجل، البالغ من العمر 48، وبسجلّه في التحريض وإثارة الشعب، وإدانته السابقة بنشاطات مناهضة للعرب، على أن من الاستحالة ترشيحه لمنصب يتعلق بفرض القانون.
وكأحد أتباع الحاخام المتطرف مائير كاهانا، برز للعلن عندما كسر قطعة تزين سيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي يتسحاق شامير عام 1995. وقال: “مثلما استطعنا الوصول إلى هذا الرمز فإننا قادرون على الوصول إلى رابين”، وبعد أسابيع أطلق متطرفٌ يهودي معارض للعملية السلمية مع الفلسطينيين النار عليه.
وظل بن غفير، الذي يعيش في مستوطنة كريات أربع، جنوبي الضفة الغربية، يحتفظ بصورة باروخ غولدشتاين، الذي قتل عشرات من المصلين الفلسطينيين في الحرم الإبراهيمي. وفي السنوات الأخيرة، درس القانون من أجل الدفاع عن المستوطنين اليهود المتهمين بالهجوم على الفلسطينيين. واهتم الإعلام به، ما رفع من شهرته، ونجح في الانتخابات البرلمانية، عام 2021، كزعيم لحزب القوة اليهودية.
وكان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد تحدث، قبل عام من الانتخابات، بأنه لن يعين بن غفير في حكومته، لكن أطول رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل احتاج لبن غفير من أجل تشكيل الحكومة. وكان الثمن أن يكون وزيراً في الوزارة التي منحت اسماً كبيراً: “الأمن القومي”، مع أنها كانت تعرف باسم وزارة “الأمن الداخلي”.
وقال بن غفير، الذي خاض حملته الانتخابية على أساس برنامج “القانون والنظام”، إن هدفه هو “تعزيز الحكم والسيادة”، وزيادة ميزانيات الشرطة.
ورغم هذا الزعم، فإن معدلات الجريمة زادت تحت إدارته للوزارة، وذلك حسب بيانات لحركة حرية المعلومات. وبخاصة الجريمة في البلدات والقرى العربية داخل إسرائيل، حيث وصلت إلى 116 جريمة قتل عام 2022 و244 في عام 2023، وذلك بحسب البيانات التي اطلعت عليها “فايننشال تايمز”، فيما قتل حوالي 170 عربياً هذا العام. وتقول الشرطة إن “معالجة العنف في المجتمع الإسرائيلي- العربي لا يزال أولوية”، وقد خصصت لها “مصادر كبيرة”. إلا أن ثقة الرأي العام بقوى الشرطة تدهورت، وكذا تراجعت معنويات عناصرها، واستقال عدد من الضباط من ذوي الرتب المتوسطة والعليا، أو هددوا بذلك، حسب مقابلات وتقارير إعلامية واتصالات داخلية اطلعت عليها صحيفة “فايننشال” تايمز.
كما استقال ستة نواب لمفوضي شرطة، في الشهرين الماضيين وحدهما. وقال قائد شرطة بارز سابق عن غفير بأنه “يمثل كل ما هو غير ديمقراطي؛ تنمّر، عنف، عنصرية. وطالما استمر بالسماح له بالمضي بخططه، وتعمق فشله، فلن يكون هناك قوة “ديمقراطية” للشرطة”. مضيفاً: “تستهدف الشرطة العناصر المعادية للحكومة والأقليات، وأنت تبدأ بالعرب، ولن ينتهي الأمر عند هذا الحد”.
ويصف المعادون للحكومة الشرطة بأنها “ميليشيا بن غفير”. وطالب الوزير نفسه بالعمل كـ “مفوض أعلى للشرطة” بصلاحيات فوق القائد الأعلى، سعياً منه للمشاركة ليس فقط في السياسة العامة ولكن في تفاصيل العمليات واستخدام القوة، بحسب ما قاله العديد من كبار ضباط الشرطة السابقين. وأضاف هؤلاء بأن هذا لا يخرق فقط الأعراف الديمقراطية، ولكن القانون الإسرائيلي الذي ينص على ابتعاد مفوض الشرطة عن التدخل في السياسة والتزام الحيادية. وحاولت المحكمة العليا تأكيد صلاحيات المفوض بعدما اشتكى ناشطون من السلطات الواسعة لبن غفير. إلا أن هذا مارس التأثير من خلف الأبواب.
وقال تزور إن “جوهر قوة الوزير يكمن في بناء القوة، وبعبارات أخرى، التعيينات، وهنا تكمن سلطته”. وقد استخدم بن غفير هذه السلطة بشكل واسع، حيث أجرى مقابلات شخصية حتى مع القادة من ذوي الرتب المتوسطة من أجل ترقيتهم، واتصل مباشرة برؤساء المناطق، حسبما قال العديد من الأشخاص المطلعين على عمليات الشرطة. وقال قائد شرطة سابق: “هناك فوضى داخل الشرطة، ويقوم بزرع الخوف في قلوب الضباط، وبناء على أجندته” و”يقوم بتشكيل الشخصيات الذين يقودون الشرطة، بشكل يظهر للآخرين أنه يجب أن يكون ولاؤهم”.
وأضافت الصحيفة أن مكتب وزير الأمن الوطني لم يرد على طلبات التعليق المتكررة منها.
وفي العام الماضي، عيّن بن غفير داني ليفي مفوضاً عاماً للشرطة، وهو اختيار صادم، لأن ليفي عين مفوض منطقة قبل أقل من عام. وكان مسؤولاً عن تفريق التظاهرات في بلدة نتنياهو قيسارية. وقال له بن غفير في حفل ترسيمه: “أنت الشخص المناسب في المكان المناسب”، مضيفاً: “جاء داني بأجندة يهودية وصهيونية، وسيقود الشرطة بناء على السياسة التي أحددها له”. لكن تزور يرى أن تعيين بن غفير لليفي لا يسحب عنه المصداقية “كون الشخص الذي عيّنه مجرماً لا ينزع المصداقية على التعيين، لكن على [داني ليفي] عبء الإثبات”.
وفي تموز/يوليو، أصدر كوبي شابتاي، المفوض المنتهية ولايته، تحذيراً شديد اللهجة: “إن المعركة ضد تسييس الشرطة وانحرافها عن المسار المهني تجري على قدم وساق”.
وفي أول أسبوع من تولي ليفي عمله كمفوض، في بداية أيلول/سبتمبر، اعتقلت الشرطة 125 متظاهراً، مقارنة مع 85 معتقلاً شهرياً، وطوال 20 شهراً من التظاهرات، حسب جبهة دعم المعتقلين.
واعتقل متظاهر اسمه نداف غات في تل أبيب، هذا الشهر، حيث كان يقف على قارعة الطريق، وبقي محتجزاً طوال الليل، ولكنه لاحظ غياب المهنية. وفي الوقت نفسه، قام نشطاء اليمين المتطرف، الذين يرتبطون بشكل وثيق مع بن غفير وحركة الاستيطان في الضفة الغربية، خلال النصف الأول من هذا العام، بمنع قوافل المساعدات التي تحاول الوصول إلى غزة التي مزقتها الحرب، ولم تتدخل الشرطة إلا نادراً، ولم تعتقل أحداً.
ونقلت الصحيفة عن مصدر أمني إسرائيلي قوله إن هناك شكوكاً داخل الجيش بأن أفراد الشرطة أبلغوا المجموعات المتطرفة هذه بحركة القوافل.
وحتى الإدارة الأمريكية طالبت علناً السلطات الإسرائيلية ببذل المزيد من الجهود لوقف الهجمات. وهناك أمثلة أخرى على هذا النهج المتساهل من اليمين القومي المتطرف، ففي تموز/يوليو، اقتحمت عصابات منهم قاعدتين عسكريتين إسرائيليتين، احتجاجاً على اعتقال عدد من جنود الاحتياط بزعم تعذيب المعتقلين الفلسطينيين.
ومع استجابة الشرطة الباهتة، اضطر الجيش الإسرائيلي إلى نشر قوات المشاة لحماية إحدى القاعدتين. ولم يتم اعتقال أي من القوميين المتطرفين.
وقال عدد من الضباط السابقين إن أوضح الأمثلة عن لامبالاة الشرطة وأكثرها سوءاً سجّل في القدس والضفة الغربية، حيث ارتفعت هجمات المستوطنين الإسرائيليين على الفلسطينيين بشكل حاد، بحسب بيانات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية.
وحذر مدير شين بيت، رونين بار، في رسالة أرسلها، الشهر الماضي، للحكومة، وليس لبن غفير، من أن زيادة العنف “نتاج ضعف يد الشرطة، وربما الشعور بالدعم لحد ما”. ونفت الشرطة، في ردود على أسئلة محددة من الصحيفة، بأنها تعمل بناء على خطوط محايدة بعيداً عن السياسة.
ويرى يواف سيغالوفيتش، الضابط البارز السابق في الشرطة، ونائب وزير الأمن الداخلي السابق عن حزب “ييش عتيد” أن الرأي العام لديه اعتقاد بأن الشرطة أصبحت مسيّسة تحت إدارة بن غفير.
ويرى مسؤولون إسرائيليون سابقون وحاليون أن اقتحامات بن غفير للحرم القدسي تعتبر من أخطر تدخلاته.
وزَعَمَ، الشهر الماضي، أنه غيّرَ الوضع القائم في الحرم من طرف واحد، وهو زَعْمٌ سارع نتنياهو لنفيه. وكتب بار، في رسالته، بأن استفزازات كهذه قد تقود إلى سفك الدماء، وقد تغيّر وجه إسرائيل وللأبد، وبدون رجعة.