ما عرضته “الجزيرة”

عدلي صادق :

استحث ما عرضته قناة “الجزيرة” في برنامج “ما خَفيَ أعظم” ردود أفعال فلسطينية مستنكرة لذلك العرض، باعتباره نوعاً من البوح بأسرار العمل المقاوم.
في تقديري، من خلال تحليل مهني بحت، إن ما جاء في ردود الأفعال المستنكرة، فيه منطق، وقد سبق لي أن استنكرت قبل سنوات برنامجاً استقصائياً عرضته القناة، وكان توقيت العرض، مدعاة اشتباه في مقاصدها الحقيقية، وكان ظاهرها رفع المعنويات، لكنها في باطنها، وفي جوهر رسالتها الإعلامية، تؤدي رسالة مضادة، لأن توقيت العرض كان في ذروة العمليات العسكرية الإجرامية التي يقترفها المحتلون. فبينما كان الناس يُقتلون بالجملة، شباباً وشيبا ونساءً وأطفالاً، ومنسوب الغضب والألم يعلو ويطفح، وإذا بالجزيرة تعرض تفصيلات مدينة أخرى في غزة، تحت الأرض، تُجرى فيها عملية انتاج سلاح صاروخي، واختبار فاعليته، ومراكمته استعداداً للاستخدام، وفيها مكاتب وكتائب وشبكات اتصال، على نحوٍ يتفوق على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. وظهر المقاوم الشهيد أحمد الجعبري، بالصوت والصورة، وهو يعرض ما يمتلك، ما يجعل البرنامج، في حقيقة رسالته الإعلامية، وفي ناظر المراقبين من كل الأطراف المستنكرة لجرائم الاحتلال، سبباً في تخفيض منسوب الغضب والألم. فإن كان هذا بعض ما تحضره حماس لإسرائيل، بهذا الحجم والمستوى، فستكون إسرائيل مضطرة الى فِعل ما تفعل، وما الشهداء، إلا ضحايا لاضطرارها الدفاع عن نفسها، ما أوجب استيعاب المصيبة!
بعد أن أصبح المقاومون في الضفة، في مدنهم، معرضين للتوغل اليومي والنار الإغراقية؛ عُرض البرنامج لكي تتقمص “الجزيرة” دور من ينتشل الدلو من البئر، وتأتي بما لا يعرفه الناس، لإنعاش روحهم المعنوية. وكان الأجدر بالقناة، إن كانت ناشلة الدلو من البئر، أن تعرض تفصيلات الوقائع الإسرائيلية الكامنة في خلفيات العدوان اليومي، على مستويات سيسيولوجيا مجتمع العدو، وسيسيولوجيا الجيش، ورديفه الأمريكي، ووقائع التربية الدينية والعنصرية، وقبح صانعي السياسات وثقافاتهم ومنابت فاشيتهم. وذلك ـ بالطبع ـ بعد الجواب عن سؤال مهم: من هو الطرف الذي يستحق عرض أسراره وتدابيره ومستويات عمله وتقنياته؟!
في البرنامج القديم عن غزة الأخرى تحت الأرض، كانت الأشرطة التي عُرضت، مؤذية وليست تعبوية، وهذا ما جعل الإعلامي غسان بن جدو، الذي بدأ في “الجزيرة” واشتُهر فيها، يقول إن “الجزيرة” قتلت الجعبري ويزيد بأن القناة سلمت الأشرطة لمن يريدون الاستفادة منها.
لا أريد أن أتطرف في التحليل لكي أقول إن في الأمر ملعوب. ففي ذات نص، نشرته، قلت إن إذاعة إسرائيل باللغة العربية، كانت قبل عقود تعرض برنامجاً دينياً يقدمه فلسطيني من سكان أراضي 48 يُدعى نور الدين الدريني، المُكَّنى “أبو جرير”. وفي الحقيقة كان ما يقدمه “أبو جرير” مريح للمستمع المسلم، بسبب صوته الذي ينم عن تقوى وعن تذكير بفوائد العبادة والتهدج والاستقامة في المعاملة، وربما لم يكن “أبو جرير” نفسه، وهو محض موظف ـ كما موظفي “الجزيرة” يعلم أن لنورانيه إدائه، توظيف ماكر لخدمة رسالة إعلامية تريد أن تقول للناس، أن لدى إسرائيل أحد أهم منابر التقوى يستمع الفلسطينيون من خلاله الى خطابٍ مشبع بكلام الله. (وافتراضي أن نور الدين الدريني ربما لم يكن يعلم حقيقة دوره، بسبب أن شقيقاً له كان من بين كادر فتح في تونس).
الموضوع طويل، وفي المحصلة نحن لا نتجنى على كادر “الجزيرة” وأيضاً نحن لسنا مغفلين، لكي تضحك “أم جرير” على ذقوننا، وهذا ما أقوله لحماس وللمقاومين في الضفة، وأزيد عليه مؤكداً أن مثل هذه البرامج، يجوز عرضها بعد النصر وتحقيق أي إنجاز.