معضلة السلاح النووي

مدى الفاتح

انتهت الحرب العالمية الثانية بحدث درامي، حينما لجأت الولايات المتحدة لاستخدام القنبلة النووية في مواجهة اليابان. كانت هذه هي المرة الوحيدة التي تم فيها استخدام هذا السلاح الفتاك، الذي وبعد قرابة القرن من استخدامه الأول، ما يزال محض تساؤل، ما بين مجموعة ترى أن استخدامه آنذاك كان مبرراً لظروف الصراع، ومجموعة أخرى ترى أنه لم يكن اللجوء إليه تحت أي ظرف ضروريا.
النقاش حول دواعي استخدام القنبلتين اللتين ضربتا مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين لا نهائي، لكن النظر إلى النتائج المروعة، التي امتد تأثيرها لعقود على الإنسان والبيئة اليابانية، والتي تسببت في مقتل أكثر من ربع مليون إنسان بشكل فوري، أو نتيجة تالية لاستخدام هذا السلاح الفتاك، يجعل كل مبرر دفاعي ضئيلاً، فمنذ الدقائق الأولى تجاوز أثر القنبلة الجانب العسكري، ليشمل كل الأحياء على محيط الإشعاع، ويقضي بشكل كامل على مناطق واسعة ومهمة في العمق الياباني.
حدثت هذه القصة المأساوية في عام 1945. اليابانيون ما يزالون يتذكرون ذلك اليوم بأسى. بالنسبة للعلماء، المحايدين عاطفياً، أو الذين يمكنهم إيجاد تبريرات وطنية وأخلاقية لعملهم القائم على تطوير أسلحة الدمار، فقد كان ذلك الحدث فرصة لاختبار آثار القنبلة بشكل فعلي. من المفارقات أن العلماء الأمريكيين سارعوا للقيام بمبادرات لتخفيف الآثار الصحية للضربة، كانت متابعة حالة المصابين مفيدة علمياً من أجل التمكن من معرفة تأثير السلاح النووي على فئات مثل، الأطفال أو المرضى السابقين أو النساء الحوامل. الأمر لم يقف عند هذا الحد، حيث تابع العلماء النوويون تطوير أبحاثهم واختباراتهم بشكل يجعل القنبلة النووية أكثر تدميراً. يمكن اليوم، حتى لغير المختصين، أن يتخيلوا كيف سيكون دمار القنابل الجديدة، التي استمر العمل عليها لعقود. بالنسبة لمجلس علماء الذرة، ومقره شيكاغو، وهو تجمع يضم باحثين وعلماء مرموقين، فإن المسألة هي أخطر مما يبدو بكثير. يرى هؤلاء العلماء أن البشرية معرضة لخطر الإبادة الشاملة، بل يكاد الأمر يكون مسألة وقت. مجلس علماء الذرة، الذي يضم أحد عشر عالماً من الحاصلين على جائزة نوبل، يمضي لأكثر منذ ذلك لدرجة تحديث ما يسميها «ساعة يوم القيامة»، بين كل حين وآخر، لقياس مدى الاقتراب من النهاية. ينظر هؤلاء العلماء إلى التهديد النووي على خلفية الحرب الأوكرانية بقلق وجدية، حيث يبدو لهم الأمر مشابهاً لما حدث في الحالة اليابانية حينما كان الأمريكيون يحذرون من استخدام السلاح الأقسى، من دون أن يكترث لهم أحد. مع التطورات الحالية، فإنه يكفي ضغطة زر واحدة لاندلاع الحرب، التي تعني اليوم دمار العالم بسبب حصول كثير من الدول على التقنية النووية.

تأمين المنشآت النووية لا يمكن الاعتماد فيه على المنظومات الدفاعية الصاروخية بشكل تام ونهائي، فهي مهما كانت موثوقة لا تكون كافية

منذ عام 2015 انشغل العالم بالملف النووي الإيراني، وبالاتفاق الذي كان الغرض منه إثناء طهران عن طموحاتها النووية. إيران بدورها لم تعترف بأنها ترغب في الوصول إلى السلاح النووي، أو أنها تهدف لتصنيع قنبلة، بل ظلت تدافع عن حقها في استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية. المنطق في الرفض الأمريكي والغربي لحصول إيران على هذا السلاح كان يعود لاعتبارهم أن النظام هناك «غير رشيد» وحصوله على تقنيات نووية قد يُدخل المنطقة في دائرة التهديد. المنطق يبدو سليماً ظاهرياً، خاصة مع التهديدات التي تمثلها إيران لجيرانها حالياً، لكنه يحتاج في الواقع لتعريف أكثر وضوحاً للرشد المقصود، فهل الولايات المتحدة التي كانت الدولة الأولى، والوحيدة، التي استخدمت هذا السلاح راشدة، حينما انتقمت لنفسها بخلق معاناة لا مثيل لها لأجيال من اليابانيين؟ في القارة الآسيوية تملك الجارتان المتشاكستان، الهند وباكستان، السلاح النووي منذ أمد بعيد، مع علمهما بأن استخدامه لن يكون خياراً منطقياً لكلا البلدين. مع ذلك فإن التخلي عن هذا السلاح لا يبدو مقبولاً، حيث تفضل كل من نيودلهي وإسلام أباد الاحتفاظ به للردع المتبادل. من جهة أخرى، يبدو خيار التخلص المشترك والمتزامن صعباً. كوريا الشمالية تبدو بدورها مثالاً مختلفاً، فقد انتهزت فرصة كونها خارج النظام الدولي، وغير مجبرة على التقيد بمعاييره، في تطوير سلاحها النووي، الذي بلغ اليوم مرحلة الجاهزية للاستخدام. هذا التطور جعل الجيران الآسيويين مجبرين على ضبط النفس إزاء التحركات التي تقوم بها بيونغ يانغ مثل التمارين العسكرية، أو مثل تجريب الصواريخ النووية. لا يتوقع أن تكون كوريا الشمالية، التي أنفقت الكثير من أجل الحصول على التقنيات النووية، جاهزة للتخلي عن ترسانتها المتقدمة، حتى في حالة التصالح مع الدول الغربية، فميزة هذا السلاح تكمن في أنه يمنحك ضمانة دفاعية لا مثيل لها، ويجعل الدول تحصل على أهمية جيوسياسية واستراتيجية ما كانت لتحصل عليها مهما امتلكت من موارد. في المنطقة العربية يظل مفاعل ديمونة الإسرائيلي هو الخطر الأكبر، ليس فقط بسبب احتمال استخدام هذا السلاح في مواجهة دول عربية، وإنما لأنه سيكون هناك على الدوام خطر يتمثل في حدوث انفجار غير مقصود لهذا المفاعل. أسباب مثل هذه الانفجارات كثيرة وقد حدثت فعلاً أعطال سابقة شهيرة لبعض المفاعلات النووية، بل حدثت تسربات إشعاعية لمفاعل ديمونة نفسه. على سبيل المثال، فإن المنطقة حبست أنفاسها قبل عامين، حينما اقترب صاروخ كان منطلقاً من الأراضي السورية من فضاء المفاعل. في ظل الغموض الذي يحيط بالمشروع النووي الإسرائيلي، فإن أسئلة حول تطبيقات الحماية أو التأثيرات الفعلية لمثل هذا الانفجار تبدو غير واضحة الإجابة. ترى تل أبيب أنه يجب عدم الإفصاح عن أي معلومة تتعلق ببرنامجها النووي، وبمشروع ديمونة الواقع في صحراء النقب، كما ترفض التعليق حول الأمر، أو الاعتراف الصريح بامتلاكها200 قنبلة نووية، مكتفية بتوجيه الأنظار لوجهات أخرى كالمشروع الإيراني. تأمين المنشآت النووية لا يمكن الاعتماد فيه على المنظومات الدفاعية الصاروخية بشكل تام ونهائي، فهي مهما كانت موثوقة لا تكون كافية. يكفي أن هذه المنظومات الإسرائيلية وتلك القباب الصاروخية كانت تعجز عن صد بعض صواريخ المقاومة البسيطة.
الخطر الثاني يتعلق بالحرب السيبرانية، فمع تطور العلوم وارتباط البرنامج النووي بشبكات حاسوبية وبرامج إنترنت، فإن خطر انكشاف هذا البرنامج يظل موجوداً في ظل توجه كثير من الفاعلين الدوليين لخيار الحرب الإلكترونية. مع كل هذا، إلا أن هناك من لم يفقد الأمل في عالم خالٍ من أسلحة الدمار الشامل. في عام 2017 حصلت السويدية بياتريس فين على جائزة نوبل للسلام، فين هي المديرة التنفيذية لـ»الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية»، التي تعرف اختصاراً بـ»آيكان» والتي كانت تسعى، وما تزال، محاولة الوصول إلى إجماع دولي يكون هدفه هو القضاء التام على السلاح النووي. استطاعت فين تحقيق بعض النجاحات، التي تمثلت في الوصول لمعاهدة حظر السلاح النووي التي تمنع تطوير وتجريب الأسلحة الفتاكة. تحمس لهذه المعاهدة حتى الآن 68 بلداً، لكن المفارقة هي أن غالبية هذه الدول تكمن في العالم الثالث، وتظل بثقل ضعيف عالمياً حينما يتعلق الأمر بالمسألة النووية. أغلب المتحمسين للمعاهدة ولجهود الحظر النووي هم من الدول غير النووية. هذه الحقيقة لم تمنع فين، وغيرها من المهتمين، من الحلم بعالم بلا تهديد نووي.