في المفهوم:
ينصرف مفهوم التنوير من حيث المبدأ برأيي, إلى ضرورة اعتبار أن العقل الإنساني وحريّة الإرادة الإنسانيّة, هما المنطلق أو المصدر الرئيس لكل النشاط الفكري والعملي لحياة الإنسان, وبالتالي تأكيد ذات الإنسان واستقلاليتها, هذا إضافة إلى ضرورة الإقرار أيضا, بأن الظواهر بعمومها الطبيعيّة والاجتماعيّة المحيطة بالإنسان أو التي ينشط فيها لإنتاج خيراته الماديّة والفكريّة, هي ظواهر لا تقوم على الثبات والإطلاق, بل تقوم على الحركة والنسبية.
والتنوير وفقا لهذا المعطى, موقفا إشكاليّاً من حيث تحديد بدايته الزمانيّة والمكانيّة, وبالتالي تحديد مصدره الحضاري, بالرغم من كونه كشروع حضاري قد نمى وترعرع وتبلور في الغرب, وشكل فيما بعد أحد المكونات أو المقومات الرئيسة للحضارة الغربيّة في شقيها المادي والفكري معا .
معطيات وتجليات التنوير في عالمنا العربي:
يبدو أن سؤال النهضة والتنوير في وطننا العربي لم يزل هو ذاته السؤال الذي طرحه “الطهطاوي” عام /1834/ في كتابه (تخليص الإبريز..), وهو ذاته السؤال الذي طرحته مجلة (الجنان) عام/1870/ (من نحن ؟), أو “سليم البستاني” ( لماذا نحن في تأخر؟) , وكذلك أسئلة كل من ” أديب اسحق – الأفغاني – محمد عبده – رشيد رضا – قاسم أمين – شبلي شميل – أنطون فرح – ألقاسمي – الريحاني – رفيق العظم – سلامة موسى – التيزيني – الجابري – العروي – ياسين الحافظ , وغيرهم الكثير من المفكرين العرب, منذ بداية القرن التاسع عشر وصولا إلى بداية القرن الواحد والعشرين.
نقول : إذا كانت أسئلة النهضة والتنوير ظلت هي ذاتها تُطرح منذ أن بدأ العرب عبر كتابهم ومفكريهم يحسون بحالات التخلف المزري الذي يعيشونه, مقارنة بالغرب الذي أخذوا يلمسون حالات تطوره وتقدمه عبر مشاهداتهم المباشرة واطلاعهم على أدبياته الفلسفيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاقتصاديّة, فإن الإجابات عن هذه الأسئلة كانت مختلفة ومتفاوتة في طبيعتها وإدراكها لعمق أزمة التخلف التي تعيشها أمتنا العربيّة عند هذا الكاتب أو المفكر أو ذاك. وعلى الرغم من أن طبيعة الإجابة وتحديد مكامن الأزمة, قد ارتبطت بالمواقف الفكريّة أو الأيديولوجيّة للكتاب العرب ومفكريهم الذين انقسموا ما بين أصولي ديني متطرف, وجد العلة في الابتعاد عن الأصول الدينيّة, والرافض في الوقت نفسه لأي انفتاح على الغرب الكافر حسب رأيه. أو رجل دين معتدل آمن بضرورة الوقوف عند معطيات الحضارة الغربيّة والأخذ منها ما هو نافع لهذه الأمّة وغير ضار بدينها وأخلاقها. وبين كاتب ومفكر علماني آمن بالفكر القومي واليساري وضرورة الانفتاح على الآخر والاستفادة من تجاربه فيما يخدم نهضة هذه الأمة وتقدمها.
نقول: بالرغم من هذا التفاوت بين حضارة الشرق والغرب, إلا أن هناك قناعة مشتركة لدى الكثير منهم بأن هذه الأمّة مأزومة بتخلفها الشمولي, هذا التخلف الذي عبر عن جانبه الفكري والاجتماعي والسياسي الشيخ “رشيد رضا” عام /1898/ بقوله : ( .. حتى أصبح الجبر توحيدا, وإنكار الأسباب إيمانا, وترك الأعمال المفيدة توكلا, ومعرفة الحقائق كفرا وإلحادا, وإبداء المخالفة في المبدأ دينا, والجهل بالفنون والتسليم بالخرافة صلاحا, واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية, والذل والمهانة تواضعا, والخنوع للذل والاستسلام للظلم رضا وتسليما, والتقليد الأعمى لكل متقدم علما وايقانا. ). (1). أما عن جانبه الاقتصادي فقد عبر عنه المفكر النهضوي “فتحي زغلول” عام/ 1899/ بقوله ” : (.. نحن ضعفاء في كل شيء تقوم به حياة الأمم, متأخرون في كل شيء عليه مدار السعادة.. ضعفاء ي الزراعة, ضعفاء ي الصناعة, وليس منا إلا الفعلة والعتالون ومنفذو إرادة الأجنبي, ليبقى هو, ونموت نحن ليحيى, هذه المعامل الفسيحة والمصانع العظيمة التي أقيمت بين بيوتنا كلها للأجنبي.. – ثم يتابع – نحن ضعفاء في التجارة, ضعفاء في العلم, اللهم إلا علم مداره جهل حقائق الأشياء في الوجود, أما المفيد فيه فقد اقتصرنا على ما يختص بعلاقة الإنسان بربه, والباقي حكمنا عليه كله بالإعدام . ). (2).
هذا في الوقت الذي أبصر فيه الكثير من هؤلاء الكتاب والمفكرين النهضويين العرب الأسباب الحقيقية الكامنة وراء أزمة التخلف هذه, فكانوا بدورهم يقترحون الحلول المناسبة لتجاوزها, ولكن كلاً من موقعه الفكري والطبقي ودرجة ونوعيّة ومرجعيّة ثقافته والأيديولوجيّة. الأمر الذي جعلنا نعمل على اصطياد هذه الأسباب والحلول اصطيادا في تلك المواقف الفكريّة النهضويّة التنويريّة التي جاءت متفرقة هنا وهناك عند هؤلاء الكتاب لنصل إلى نتيجة في هذا السياق تشير, إلى أن أهم أسباب الأزمة مجتمعة هي : التخلف الاقتصادي عموما – زراعة وصناعة وتجارة- لا سيما سيادة أنموذج الاقتصاد الريعي والأبوي, وضعف التطور التكنولوجي والعلمي, وغياب الأنظمة الدستوريّة ودولة القانون, وسيادة الطبيعة الاستبداديّة لأنظمة الحكم القائمة على مفاهيم “الدولة المملوكيّة”, والأميريّة العسكريّة ومرجعياتها التقليديّة – العشيرة والقبيلة والطائفة –, إضافة لسيطرة الغرب بشكل مباشر أو غير مباشر على الأنظمة السياسيّة العربيّة ومقدرات الشعوب وربطها بالمتروبول, وعدم امتلاك هذه الأمّة للكثير من العلوم البرانيّة التي يقوم عليها مدار حياة الأمم على حد تعبير” الطهطاوي”, وقد حددها آنذاك بـ/14/ علما نذكر منها, علوم التربية والحقوق الطبيعيّة والوضعيّة والعلوم العسكريّة وعلم الميكانيك وعلم الكيمياء..الخ, (3). وهناك أيضا غياب القوى الاجتماعية الواعية لذاتها المناط بها العبء النهضوي والتنويري (الطبقة الواعية لذاتها), واقتصار هذا العبء على شرائح الانتلجينسيا التي غالبا ما دخلت وتدخل في حالات صراع مع السلطات السياسيّة القائمة, وهناك غياب دور المرأة واضطهادها تحت ظل سيادة المجتمع الذكوري, وانتشار الأميّة بكل دلالاتها ويأتي على رأسها أميّة الحرف, وغياب الحريات في كل اتجاهاتها بدءا من حريّة الرأي, مرورا بالحريّة السياسيّة وصولا إلى الحريات الإبداعيّة في الأدب والفن, وغياب التفكير العقلاني والنسبي, وانتشار التفكير الجبري ولامتثالي والإطلاقي, إضافة إلى انتشار الفقر والظلم والاستبداد, وغياب الرأي والرأي الآخر ومقومات الحوار الإبداعي المثمر, وغير ذلك الكثير من الرؤى والأفكار التي حددت معوقات التنوير والنهضة العربيّة .
كاتب وباحث من سوريّة
d.owaid333d@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش الواردة في متن النص من كتابي – إشكالية النهضة في الوطن العربي من التوابل إلى النفط – درار المدى – دمشق 1997.
