في اللحظة التي يُسلِّم فيها الإنسان مفاتيح حريته طواعيةً أو تحت وهم الأمان، تبدأ البوابة الخفية للاستعباد بالتكوّن. إنَّ الحرية، في جوهرها، ليست امتيازاً طارئاً يُمنح، بل هي شرطٌ أنطولوجيٌّ للكينونة، وبها يتحقّق الوجود الإنساني كوعيٍ فاعلٍ ومسؤولٍ، لا كمجرد تكرار لوجودٍ مُملى من الخارج. وإذا كان سارتر قد قال إن الإنسان “محكوم بالحرية”، فإن التفريط بها ليس سوى نكوص عن الشرط الوجوديّ، وعودة إلى الحظيرة التي يُراد له أن يبقى داخلها صاغراً، مستكيناً.
الحرية ليست شعاراً تُرفع له اللافتات، ولا هي حالة شعورية مجرّدة. إنها مشروع متجدد، يقف على ثلاث ركائز: الوعي، الإرادة، والمقاومة. وأي خلل في هذه الدعائم يتحوّل إلى صدعٍ يتسلّل منه الاستبداد بثيابه المتعددة: سياسياً كان أو دينياً أو اجتماعياً أو حتى استهلاكيّاً.
بين المفاتيح والسلاسل.
حين نفرّط بمفاتيح حريتنا، لا نفقد مجرد إمكانية التعبير أو التنقل أو الاختيار، بل نُقصي ذواتنا عن مبدأها الجوهريّ: الاستقلال الذاتي، وهو المفهوم الذي أكّده كانط باعتباره جوهر الكرامة الإنسانية. إن كل تفريطٍ بالحرية هو، في حقيقته، تفريطٌ بالكرامة. وهكذا يصبح الإنسان قابلاً للتشييء، أداةً في يد السلطة أو الأيديولوجيا أو الغوغاء، فاقدًا القدرة على التأمل والنقد، محكوماً بالرغبة الجمعية التي لا تُفرّق بين الضرورة والرغبة، ولا بين الحقّ والوهم.
إن السلاسل لا تبدأ من معصم اليد، بل من فكرةٍ تُزرع في الذهن. إنها تبدأ حين تُستبدل الأسئلة الكبرى بفتات الإجابات الجاهزة، وحين يهاب المرء مواجهة ذاته، ويستطيب العيش في الظل، مدثراً بزيف الطمأنينة. إنها تبدأ حين يُستبدل الضمير بالعرف، ويُستبدل النقد بالتكرار، ويُستبدل الفعل بالخضوع.
العبودية الحديثة: الوجه الناعم للاستعباد.
ليس ضرورياً أن يكون الجلّاد ظاهراً كي يُمارَس الاستعباد. العبودية في العصر الحديث اتخذت لنفسها أشكالًا ناعمة: التلاعب بالحاجات، تصنيع الرغبة، هندسة القبول، وتطبيع الخضوع. إنها عبودية مقنّعة، تُمارَس باسم “الحرية الفردية” بينما تُدجَّن العقول وتُسطَّح الأسئلة. وهكذا يتحوّل الإنسان إلى عبدٍ لصورته، لا لحقيقته، مستهلكٍ لذاته لا مبدعٍ لها.
وقد تنبّه ميشيل فوكو إلى هذا النمط الجديد من السيطرة، حيث لم تَعُد السلطة تُمارَس من الخارج فحسب، بل من الداخل: من خلال الخطابات، والمؤسسات، والمعايير التي تجعل الفرد شريكاً في مراقبة نفسه. وهكذا يصير الإنسان حارس زنزانته.
العودة إلى الحريّة: فريضة العقل والضمير
من يستردّ مفاتيح حريته يستردّ ذاته. لكن هذا لا يكون إلا بالاعتراف أولًا بأن الحرية مسؤولية قبل أن تكون حقاً، وأن الدفاع عنها لا يكون فقط في وجه السلاسل الظاهرة، بل في مواجهة التواطؤ الداخلي، وفي تمزيق الحجاب الذي يغطي القيد ويزخرفه. وكما قال هيغل: “العبد الذي يخاف الحرية يظلّ عبداً حتى لو سقطت الأغلال”.
لا بد من ترسيخ ثقافة تَعتبر السؤال حرية، والشكّ فضيلة، والمقاومة ضرورة. ولا بد من تربية الإنسان على أنه ليس تابعاً لطائفة أو حزب أو سلطة، بل كائن حرّ، مسؤول أمام ضميره، لا أمام سلطة تراقب فعله. فإن لم يفعل، فلن تكون العبودية هي العقوبة، بل ستكون هي النتيجة الطبيعية لتنازله عن نفسه.
خاتمة: إما الحرية أو العدم.
إنّ لحظة التفريط بالحرية ليست مجرد لحظة سياسية، بل هي سقوطٌ وجوديّ. فحيث لا حرية، لا إبداع، لا أخلاق، لا كرامة، ولا حتى وعي. من يفرّط بمفاتيح حريته، سيكتشف – ولو بعد حين – أن السلاسل لا تُقيد الجسد فقط، بل تُطفئ الروح، وتخرس العقل، وتحوّل الإنسان من ذات فاعلة إلى ظلّ خائف.
فالخيار ليس بين الطاعة والتمرد، بل بين أن تكون إنساناً أو أن تكون أداة.
والسؤال ليس: من قيّدك؟ بل: لماذا سمحتَ لنفسك أن تُقيَّد؟