احمد مصطفى
أراقب كيف تستمتعونَ يا أَوبـاش بكل هٰذا النّزف الطّازج من دِمائنـا، وأُتابع جيّدًا كيف تتحوّل أرقام مشاهدات قناة الجزيرة وتقفز لمئات الآلاف عندما تبث الفصائل المسلّحـة إصداراتها العسكريّـة ذات الإخراج السينمائي، وما يعقبها من إشباع لغريزة المهلّلين خارج الإِبـادة، أولئك الحُثـالات الّذينَ يريدونَ للحرب أن تستمرّ دونَ أن تتنازل الفصائل عن شيء طالما يعكفونَ على بث عمليّاتهم مستمرّينَ بتصدير (الأورجازيم الوطني)، وبالطبع ليس في قاموسهم مفهوم الإقرار بالفشل أو الاعتبار الإنساني لحقن أرواح شعبنا أمام شهيّة آلة الحَـرب الإسرائيليّة على أنقاض 30 ألف ضحيّة، وإنما يستعدّونَ برفقة الفصائل لإعلان انتصارهم على إسرائيل حتى القضاء على آخر طفل يتنفّس فوق أرضنا الفلسطينيّة.
أيّها المهلّلونَ خارج بلادنا.. اخرسوا جميعًا، فلن تُريكم الجزيرة ما أراه هنا في غزّة، من جوع وعطش وبرد وأمراض وذُل واحتكار وفلتان أمني وكل ما هو غير إنساني، ولن تسمعوا أصوات النّازحين الّذينَ يرفعونَ أياديهم للسّماء ويشكونَ إلى ربّهم ما تفعلهُ بهم إسرائيل وما أوصلتهم إليه الفصائل في وصلة دعاء واحدة، ولن تصوّب الجزيرة كاميراتها نحو مَن يقطّعون أشجار المقابر ليطهو طعامًا لأطفالهم، ولن تنقل إليكم طقوس أربع فتيات يصنعنَ دائرة حول صديقتهنّ حتى تتمكّن من التبوّل في الهواء الطّلق دونَ ماء ولا مناديل ورقيّة، ولن يتكلّم أحد منهم عن بقع الدّمـاء المطبوعة على ملابس النّساء اللّواتي لم يحصلنَ على فوط صحيّة للتعامل مع الدّورة الشهريّة، ولن تستضيف على شاشاتها مَن يتساءَل عن الخيام المجانيّة الّتي تُباع للنّازحين المُفلسين بأسعار فلكيّة، ولن تركّزَ على الغاضبينَ والنّائمينَ على أرصفة الشّتاء بلا زادٍ ولا مأوى ولا مقوّمات بشريّة، ولن تُغطّي عمليّات السّطو على قوافل المساعدات الإنسانيّة، ولن ولن ولن..
تحتاج الماكينات الإعلاميّة الموجّهة لإظهار قطاع غزّة كقوّة عظمىٰ بغرض التباهي بحلفائها والحصول على حقوق بث حصريّاتهم، وتلتقط إسرائيل ذٰلك الخطاب وتجعلهُ مسوّغًا دعائيًّا لتدمير القطاع أكثر فأكثر، فلا فائدة دعائيّة من تناول المأساة بصورتها النّاقدة، أو تناول الجوانب الإنسانيّة البحتة طالما هناك مَن يستفيد مِن دِمائنـا لتعزيز نفوذه السياسي داخل الإقليم -قطر أُنموذجًا-، فما النفع العائد على الإعلام الموجّه من تركيز الاهتمام الإنساني الأكبر نحو مصائبنا الحياتيّة مثل انعدام فرص الحصول على أدوية مرضى الضّغط المزمن الّتي يحتاجها مئات الآلاف في غزّة كوالدايّ دونَ توفر بدائل مكافِئة؟ وما مصلحتهم من نقل حقيقة الفشل الذّريع لحكومة الفصائل المسلّحـة التي يدعمونها، بعد فشلها الكامل في التحضير لإدارة ومعالجة أزمات القطاع خلال الحَـرب وانسحابها من المشهد والتنصِّل مِنَ المسؤوليّة تمامًا؟ وماذا سيكسبونَ إن خرجنا كمدنيين على شاشاتهم لنطالب الفصائل بحماية أطفالنا العُزّل في أنفاقهم أُسوةً بالكِـلاب الأليفة الّتي قاموا بحمايتها برفقة الفتيات الإسرائيليّات المُفرج عنهنّ مؤخرًا؟
إنّ انصراف أحدكم عن الاهتمام بالإنسان الغزّي يجعلكم أنتم والاِحتـلال سواء في كفّة واحدة، وهو تبنّي صريح لا يقبل التأويل لرؤية أنّكم تروننا كحيوانات بشريّة، تتحمّل كافّة الظروف طالما لديها القليل من الأعلاف، بلا اكتراث لظروف حياتهم أو مماتهم، فلا يهز قلوبكم مَشاهد جُثث الصّغار والكبار المُلقاة في شوارع غزّة وتحت أنقاضها بلا دفن يليق بكرامتها، وإن استفزّتكم دِماؤنـا قليلًا فإنّكم تقلبونَ عنها لتتابعوا النّاطق العسكَـري ومن بعده النّاعق فايز الدويري، ثم تعودونَ بكامل الاستعداد لاستقبال مشاهد أفظع منها بعد إشباع غرائزكم بما تسمّونه “بطولة”، وكل هٰذا على حساب مَن؟ على حساب دِمائنـا نحن، نحنُ فقط يا أَوبـاش دونَ غيرنا.
أوقفوا هٰذه المسخرة بأيِّ ثمن، وابدأوا بفتح منفذ رفح البرّي لسفر المدنيين الفلسطينيين، حتى يبقى تحت الإِبـادة مَن يريد أن يتاجروا باسمه بمسمّى الصّمود، ونغادر نحن بما تبقّى لدينا من كرامتنا وأحلامنا بعيدًا عن مشروع تهجيرنا عنوةً عنّا، وإلى ذٰلك الحين فليخرس المهلّلون بشعارات البطولة على أنقاض دِمائنـا المسفوكةِ عبثًا بلا جدوىٰ ودونَ أن تكونَ فِـداءً لشيءٍ أو لأحد، وليخرس المتاجرون بأسمائنا والمساومين على أرواحنا من فنادق الدّوحة وبلاط إيران وشواطئ تركيا وأحضان الجزائر وزِقاق عمّان وحواري بيروت.
توقّفوا عن الاستمرار بتحويل دِمائنـا إلى لعبة عبثيّة ساخرة، تستمتعُ بإراقتها قوّات المحتل، ويتباهى على أطلالها كلّ وغـدٍ مختل.
