نصرالله وخطاب..«الحرب واللاحرب»!

نجيب العطار

شكَّلتِ الفَترةُ الممتدَّةُ بين إعلان “حزب الله” عن خطاب أمينِه العام السيد حسن نصرالله، وإلقائِه الخطابَ بعد ظهر أمس الجُمعة، مساحةً للمُزايدات التي كانت بغالبيَّتِها فارغةً لا مَعنى لها، سواءٌ كانتْ معارضةً لـ «فتح الجبهة الجنوبيَّة» أو مُطالبةً بها أو ما بينهما. وعمومًا فإنَّ الآراء قد توزَّعتْ بين مُريدٍ للحرب ورافضٍ لها، ومُطالبٍ بها ومُستبعدٍ لفِكرةِ وقوعِها، ومَنْ يراها حتميَّةً لكن بعيدة أو غير حتميَّة لكن قريبة. ولا مُبالغةَ إذا قيلَ أنَّ خطابَ نصر الله كان مُخيِّبًا لكُلِّ هذه الاحتمالات، إذْ لا يُمكنُ تبنِّي أيَّ رأيٍّ اعتمادًا على الخطاب الذي أبقى كُلَّ الاحتمالات قائمةً، مع تبدُّلاتٍ بسيطةٍ في نِسَبِ الأرجحيَّة.

لم يَخرُجْ نصر الله عن مِزاجِه الخِطابيِّ المَعهود، بل إنَّ خطابَه يُعتبرُ دونَ المُستوى المُفترض، عندَ الأخذِ بعينِ الاعتبار حِدَّةَ خطاباتِه وتصعيداتِه في فترات اللَّاحرب من جهة، وحجم الحدث الذي يجري في غزَّة من جهةٍ أُخرى. فنصرالله طالبَ بمطلبَيْن؛ إنهاء الحرب وانتصار المُقاومة، ورغمَ الإشكاليَّة القائمةِ نظريًّا في هذَيْن المطلبَيْن إلَّا أنَّ إنهاء الحرب، لأنَّ المطلب الثَّاني فيه مسألتَيْن؛ الأولى أنَّه لا مَعنى واضحًا له، إذْ أنَّ تعريف النَّصر والهزيمة عندَ “حزب الله”، لا يَخضعُ لمعايير مُحدَّدة تُمكِّنُنا من وضعِ تحديدٍ واضحٍ لمعنى الهزيمة النَّصر، وتاليًا فإنَّ «انتصار المُقاومة» أمرٌ مُتحقِّقٌ عندَهم، أو في خِطاباتِهم، حتَّى قبلَ اندلاع الحرب.

ومن جهةٍ أُخرى فإنَّ النَّصر والهَزيمة أمران يرتبطان بتحقيق أهداف المعركة، وبما أنَّ «طوفان الأقصى» لم يَكن الهدفُ منها «إزالة إسرائيل من الوجود»، وإنَّما هي معركةٌ «على الطَّريق»، فهذا يَجعلُ تسويق الانتصار أكثرَ سهولةً. أمَّا المسألةُ الثَّانية فهي في التَّأكيد على انتصار حماس مع أنَّ ذلك من أبدَهِ البَدَيهيَّات وهو تحصيلٌ حاصل، إذ أنَّ الذي يَقودُ «المقاومة» في غزَّة هي “حماس” بالشَّكل الأساسي و«انتصار المُقاومة» يُعادل انتصار حماس. ثُمَّ ما معنى المُطالبة بإنهاء حربٍ ما بانتصارِ أحدِ طرفَيْها؟ فلعلَّ الذي دفعَ نصر الله إلى هكذا حديث، هو محاولةٌ لتدارُكِ نوعٍ من الصَّدعِ، الذي قد يكون بعدَ ما يُشبهُ المُناكفات وتبادل الاتِّهامات بين شخصيَّاتٍ محسوبةٍ على الطَّرفَيْن، ولمَنعِ هذا الصَّدع من التَّمدُّد إلى جمهورَيْهما.

أحدَ الأمور المُلفتة في الخطاب كانَ التَّوتُّر، أو عدمُ الارتياح، غيرُ المَعهودِ أبدًا والذي بدا واضحًا على نصر الله، وتحديدًا بين الفقرة الأولى التي تحدَّثَ فيها عن الشُّهداء، والفقرةِ الأخيرة المُتعلِّقة بالأُفُق، إذ بدا مُتوتِّرًا طيلةَ الحديث عن الحدث وتبريراتِه وجدواه وتداعياتِه والتَّنسيق والموقف. بما يَخُصُّ الشُّهداء ثَمَّةَ أمران؛ أنَّ الصِّراعَ لا بُدَّ فيه مِن خسائر وهذا أمرٌ معقول، وقبلَ أن يسألَ المُستمعُ؛ «أين المَعركة؟»، سارعَ نصر الله إلى الإجابةِ بأنَّ الذي يَجري في الجنوب، هو معركةٌ من نوعٍ جديدٍ حتَّى لو أنَّها ضمن قواعد الاشتباك. وهذا صحيحٌ، إذْ أنَّ الاشتباكات رغمَ أنَّها ضمن القواعد لكنَّها غيرُ مسبوقةٍ في تاريخ الاشتباكات في الجنوب بعدَ تمّوز 2006. بيدَ أنَّ هذا التَّطوُّر النَّوعي والكمِّي في اشتباكات الجنوب مفهومٌ وطَبَعِيٌّ نظرًا لطبيعة عمليَّة «طوفان الأقصى». أمَّا الفقرة الأخيرة التي حملتْ تهديدًا لـ «إسرائيل» وأميركا فكانتِ الأكثر راحةً بالنَّسبة لنصر الله الذي يُجيدُ تأديتَها بحرفيَّةٍ عالية ومِهنيَّةٍ مُلفتة، إذْ زالَ التَّوتُّرُ عنه وعادَ إلى مِزاجِه الخِطابي المَعهود.

رغمَ حساسيَّة المرحلة وصعوبة الموقف على المحور الإيراني عمومًا، و”حزب الله” على وجه الخصوص، أطلقَ نصرالله تهديداتِه المعهودة ضدَّ «إسرائيل»، وأميركا المُستجدَّة على المستوى العسكري المُباشر. بيدَ أنَّ هذه التَّهديدات، إلى الآن، تبقى تصعيدًا خِطابيًّا تدورُ حولَ تنفيذِه، عدَّة تساؤلات مردُّها إلى العديد منَ المسائل؛ أوًّلًا أنَّ نصرالله لم يُحدِّد طبيعةَ هذه التَّهديدات ولم يَضع خطوطًا حمراء واضحةً وصريحةً يؤدِّي تخطِّيها إلى تنفيذ تهديداتِه، وإنَّما تركَ مسار ومصير «الجبهة الجنوبيَّة»، ولبنان من ورائها، مرهونَيْن بتطوُّراتِ الحرب في غزَّة وبسلوكِ «إسرائيل» تجاه لُبنان، وهذه أمورٌ لا يُمكنُ التَّنبُّؤُ بها وتخضعُ لتعقيداتٍ على مستوى «الدَّاخل الإسرائيلي»، والمستوى «الإسرائيلي» الفلسطيني، والمستويات الإقليميَّة والدُّوليَّة.

المسألة الثانية، هي بتكاليف تنفيذ هذه التَّهديدات وتوسيع رقعة الحرب، فعلى المُستوى العسكري يستطيعُ “حزب الله” أن يخوضَ حربًا طويلةً مع «إسرائيل»، ويُحقِّقَ ضرباتٍ هائلةٍ أكبر وأقسى علها ممَّا حقَّقتْه «طوفان الأقصى». فالحزب دونَ رَيبٍ، يملكُ قُدراتٍ كبيرةً لم يَسبِقْ لأيِّ حزبٍ في المِنطقةِ العربيَّةِ أن امتلكَها، باستثناء حزب البعث في العراق وسوريا، لأنَّه يُقاربُ من حيثُ أنَّه حزبٌ حاكمٌ، بيدِه الدَّولةُ والسُّلطة على حدٍّ سَواء. بيدَ أنَّ التَّكاليف غير العسكريَّة لتهديدات نصر الله، هي التي تُشكِّلُ محور النِّقاش حول إمكانيةِ التَّنفيذ.

 

وهُنا تتبدَّى عدَّة مسائل لا شكَّ أنَّ تدخُلُ في حسابات “حزب الله”؛ موقف الأنظمة العربيَّة منه والذي جاء بعدَ موقف الحزب بعد اشتعال المنطقة عام 2010-2011، وتحديدًا موقفُه من الحرب السُّوريَّة، وهذا ما يُفسِّرُ عدمَ تصعيد نصرالله للخطاب التَّخويني المعهود ضدَّ الأنظمة العربيَّة، حتَّى تلكَ المُطبِّعة. ثانيًا؛ الوضع اللبناني المُنقسم تجاه «الجبهة الجنوبيَّة». ثالثًا، وهو الأهمُّ من كُلِّ هذا، الموقف الإيراني من توسيع الحرب، فحتَّى لو سلَّمنا أنَّ إيران تتركُ هامشًا واسعًا لحزب الله في اتَّخاذ القرارات، لكنَّ قرار الحرب الشَّاملة لا يُمكن أن يُتَّخذَ دون أمرٍ إيرانيٍّ مُباشر.

فـ «فتحُ الجبهة الجنوبيَّة» يعني تحويل الصِّراع إلى صِراع إقليمي على الأقلِّ، وهذا يَعني دخول اللاعبين الكِبار بشكلٍ أوسَع ممَّا هم عليه الآن، ويَعني أيضًا تقلُّص فرصة الاستثمار وحجم الحضور في التَّسوية، بالنِّسبة للاعبين الإقليميين كإيران وتُركيا، ولا يُمكن لإيران أن تقبلَ بخسارة الورقة الفلسطينيَّة وإضعاف الورقة اللبنانيَّة، فوجود إيران في الدُّولِ الأربعة التي صرَّحَ أحدُ مسؤوليها بأنَّهم يُسيطرون عليها، إضافةً إلى وجودِها في فلسطين، هي مسائل حيويَّة لإيران لا يُمكن أن تتخلَّى عنها دونَ مُقابل يُعادلُ هذا الوجود.

بيدَ أنَّ احتمالَ الحرب الشَّاملة جنوب لبنان، لا يزال قائمًا ومُبرِّراتُ وقوعِه كثيرة، أهمُّها أنَّ “حزب الله” ينظرُ إلى الحرب في غزَّة من منظور أكبر من «السَّاحة اللُّبنانيَّة»، وحساباتُه تتخطَّى الوضع اللُّبناني المُعقَّد. ولذلك فإنَّ الحديث عن مصالح وطنيَّة لُبنانيَّة، هو حديثٌ عن وضع الحزب في الدَّاخل اللُّبناني وليس عن الوضع اللُّبناني.

كما أنَّ قرارَ توسيع الحرب، لا يَكونُ فقط باحتساب تكلفة الحرب فقط، وإنَّما بالمُقارنة بينَها وبين تكلفةِ اللاحرب، التي لن تكونَ قليلةً على المُستوى الدَّاخلي، وتحديدًا الجانب الشَّعبي، بالنِّسبة للمحور الإيراني. فشعار «وحدة السَّاحات» يَمرُّ الآن بمرحلةِ اختبارٍ مصيريَّة يبدو حتَّى الآن أنَّه يُثبتُ فشلَه، أو عدمَ مِصداقيَّتِه، وخضوعِه لتعقيداتٍ تجعلُه شِعارًا نظريًّا وليسَ استراتيجيَّة عمليَّة، وبخاصَّةٍ على مُستوى «السَّاحة اللُّبنانيَّة» التي يُديرُها “حزب الله”، الذي يَحظى بالأولويَّة القصوى وشِبه المُطلقة بين كُلِّ الفصائل التي تدعمُها إيران. كما أنَّ قرار توسعةِ الحرب ليس قرارًا إيرانيًّا فقط، وإنَّما هو قرارٌ «إسرائيليٌّ» أيضًا، إذْ منَ المُحتمل جدًّا أنْ يكون بنيامين نتنياهو، راغبًا جدًّا في هكذا خطوة لعدَّةِ اعتباراتٍ تتعلَّقُ بمُستقبلِه السِّياسي ومُستقبل اليمين في «إسرائيل»، وتوجيه ضربة قويَّة لحزب الله، مُستغلًّا الوضع الدُّولي والأميركي على وجه الخصوص.
لم يَنفِ نصر الله احتمالَ اندلاعِ حربٍ شاملةٍ ولم يؤكِّدْه، وإنَّما تركَ المسألة مفتوحة على كُلِّ الاحتمالات، لأنَّه تركَها مرهونةً لتطوُّراتٍ واعتباراتٍ، لا يُمكنُ للتحيل أن يتنبَّأ بها أبدًا.