دائماً، كنتُ، وحين يسألني أحد أصدقائي القادمين من بلادنا العزيزة فلسطين.. ماذا أريد؟! أطلب أمرين اثنين أولهما الكتاب الجديد الصادر حديثاً، الذي يتناول تجربة من تجارب أسرانا البواسل في معتقلات العدو الإسرائيلي، وثانيهما الكتاب الجديد المترجم عن اللغة العبرية إلى اللغة العربية، وذلك لأنّ لهذين الكتابين دلالة وطنية مهمة جداً؛ فالكتاب الذي يكتبه أسرانا يكون عادةً محتشداً بالأسرار والخبريات والحادثات التي تكشف عن صلادة الأسير وشجاعته وتدرجه الصاعد في سلم الوعي الوطني، واستفاداته من تجارب الأسرى الفلسطينيين الذين واجهوا السجّان الإسرائيلي بالعزيمة الكاملة، والوطنية المشرّفة، كما تكشف عن تعاون الأسرى في الجزئيات والتفاصيل على الرغم من اختلاف الانتماءات السياسية، واختلاف البيئات الجغرافية والاجتماعية، واختلاف الأعمار، فالمعتقل الإسرائيلي، وما فيه من ظلموت مخيف وقاهر، جعل الأسرى الفلسطينيين كتلةً واحدة في مواجهة السجّان الإسرائيلي الذي أراد لهم أن يكونوا أهل انحناء و(عصافير) يعادي بعضُهم بعضهم الآخر، ويترصّد بعضُهم بعضهم الآخر كي يقع في أفخاخ السجّان الإسرائيلي وأشراكه، لا بل أراد الإسرائيلي الاستحواذ على المزيد من المعلومات عن الفلسطينيين الآخرين في القرى والمدن والمخيّمات الفلسطينية، الذين مازالوا يواصلون نضالهم ضد الاحتلال الإسرائيلي، والمهم في هذه الكتب التي يكتبها أسرانا الأبطال ليس السيرة الذاتية، وقصة نضالهم وعشقهم للوطن، وعزيمتهم المدهشة في علوها وهم يواجهون السجّان الإسرائيلي فحسب، وإنما الأهمية كامنة أيضاً في أنّهم حوّلوا هذا العالم السفلي ، عالم المعتقلات، من عالمٍ للإماتة والموت والضعف والقهر والاستسلام إلى عالم حياة وخصب وتجدّد في العطاء والنضال في آن، عندما راحوا يتعلّمون اللغات الأجنبية التي ما كانوا يعرفونها قبلاً، وعندما راحوا يتعلّمون ويدرسون، ويخوضون الامتحانات، ويستحوذون على الشهادات، بما فيها شهادات الدراسات العليا، كالماجستير والدكتوراه، وهذا لم يكن عملاً مذهلاً للأقربين والأبعاد فحسب، بل كان عملاً مذهلاً في نظر السجّان الإسرائيلي، الذي أخفق في فرض ثقافة الإماتة واليأس والوحدة والقهر على الأسرى الفلسطينيين، لقد حوّل أسرانا البواسل حياةَ الجحيم ودمار النفس والجسد والخضوع، والأمراض، وبصق الدماء، والإذلال.. إلى حياة مواجهة ونهوض وعطاء، وتجدّد في عافية الجسد، والعقل، والنضال!
أسرى كثيرون، دخلوا المعتقلات الإسرائيلية ذات البيئات الممرضة، والهيئات القبيحة، والمعاملات الوحشية، وهم لم يكملوا دراستهم في المدارس والجامعات، وهم لم يعرفوا الكثير من أسرار الحياة، وهم لم يحققوا أبسط أحلامهم في قراهم ومدنهم ومخيّماتهم، لكنهم، وفي داخل هذه المعتقلات جعلوا من الكتب أسانيد لهم، فعرفوا الحياة الثقافية والفكرية والفنية والسياسية، والفلسفية من الكتب، لا بل عرفوا جغرافية العالم، والتجارب الإبداعية الكبيرة من خلال الكتب، وعرفوا التراث والتواريخ التي تعنيهم من الكتب أيضاً، وذلك لأمر جلي واضح هو الكشف عن المستقبل الذي يعيشون لأجله، ولعل ما قاله الأسير البطل ماهر يونس، عند لحظة خروجه من السجن الإسرائيلي، وبعد أربعين سنة من الاعتقال، حلمي هو أن أرى بلادي حرة مثلما أنا الآن حر!
أسرى كثيرون، ما كتبوا سطراً شعرياً واحداً، غدوا داخل المعتقلات الإسرائيلية شعراء، وقد هرّبت أمهاتهم وزوجاتهم قصائدهم التي نشرت في الصحف والمجلات الفلسطينية، ثم نشرت في دواوين شعرية صارت مثالاً للإبداع الجميل، وأسرى كثيرون ما كتبوا خارج السجن سطراً واحداً من السرد، فغدوا داخل السجون الإسرائيلية كتّاب قصص وروايات، نحن اليوم نباهي بهم وبها، لأنّ ما فيها من أسرار، وعزة إنسانية، ومكاشفات مخيفة، وفذاذة فنية هو أكثر من تجليات أرواح وأحلام وأكثر من إبداع صاف جميل.
أما الكتاب المترجم عن اللغة العبرية، فهو كشّاف أيضاً لعقلية عدونا الإسرائيلي، ولممارساته، وما يحلم به، والحقّ ليس في هذه الكتب التي عرفنا منها الكثير سوى أمرين اثنين هما: الكذب وطيوفه من زيف وتلفيق ومواربة وتصنيع رقيع لروايته التي تفقد أبسط أشكال الإقناع، وثاني الأمرين: ثقافة الإخافة والإماتة والترهيب والتهجير والهدم والخراب التي يتبنّاها، ولا هدف لها سوى إبادة الشعب الفلسطيني وبكلّ الوسائل الوحشية.
أجل، العالم السفلي الذي أعده الإسرائيلي مكاناً لإذلال أبطالنا الأسرى، بات اليوم، وبوعيهم الوطني المكين، مدارس للنضال يتعلّم فيها كلّ طلّاب الحرية والكرامة في العالم، والكتب التي يكتبها الإسرائيلي منذ عام 1948، ويكتبها في أيامنا الرّاهنة، غدت مدوّنات كشّافة لعنصريته ووحشيته التي تطالب بقتل الأطفال الفلسطينيين، الصغار قبل الكبار! وبهذا : يقول الكتاب الإسرائيلي صراحةً إنّ الإسرائيلي يقتل الفلسطيني كي يعيش هو، وهذا طبع وحشي، لا طبع إنساني وهنا.. تكمن المعلولية مع العدو النقيض!