وماذا لو ألغى ترامب العقوبات على سوريا؟

عمر قدور

مساء يوم الأحد، كتب ترامب على حسابه عبر منصة “تروث سوشيال”، أنه سيعلن لاحقاً الخبر الأشدّ تأثيراً على الإطلاق. وحدهم بعض السوريين هم الذين راحوا يعبّرون على السوشيال ميديا عن تشوّقهم للقرار التاريخي المنتظَر، على اعتبار أنه قد يكون إعلاناً من ترامب عن لقائه الشرع أثناء زيارته المملكة العربية السعودية، أو إعلاناً منه يمهّد لذلك اللقاء المرتقب برفع العقوبات الأميركية على سوريا.

كما هو معلوم، يُنظر على نطاق واسع إلى لقاء ترامب بالشرع بوصفه نيلاً للشرعية من القوة الكبرى العظمى، بما تتضمنه من مزايا العلاقة الجيدة مع واشنطن، ولا تقل عنها تأثيراً المزايا المالية المنتظرة من دول الخليج. فمن المعلوم أيضاً أن تنفيذ الوعود الخليجية السخيّة تعيقه العقوبات الأميركية، مثلما تعيق المساعدات الأوروبية المأمولة، وهي أقل من الخليجية وليست بلا شروط حتى الآن. أما واشنطن في عهد ترامب فلا تُنتظر منها المساهمة مالياً، بل إن بعض برامج المساعدات المدعومة أميركياً قد توقّف بالفعل منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
إذاً، يكاد رفع العقوبات الأميركية أن يكون الحل السحري للضائقة المعيشية الموروثة من حكم الأسد، وقد تفاقمت لدى الشرائح الأفقر بعد سقوطه بسبب ارتفاع الأسعار مع بقاء دخل الموظفين محدوداً، أو حتى التأخر في دفع الرواتب. التصريحات الصادرة عن المسؤولين في دمشق تعزز هذا التصور. فقد قيل تارةً إن العقوبات تعرقل المضي في مشروع العدالة الانتقالية، وقيل تارةً أخرى إنها تؤثّر سلباً على ضبط الأمن في البلد، أي أن ملفات أساسية مثل العدالة والسلم الأهلي رُبطت بإزالة العقوبات، مع ما تعنيه هذه التصريحات في حقل المساومة السياسية.

ما هو مؤكد أن العقوبات الدولية، في معظم حالات فرضها، لم تؤدِّ الغرض المعلن، وكان تأثيرها الأكبر على الفئات الأضعف في البلدان التي استُهدفت أنظمتها بالعقوبات. واليوم، لأول مرة يلتقي معظم السوريين، من أنصار السلطة أو سواهم، على مطلب إنهاء العقوبات بسبب تأثيراتها على الجميع. لكن الظن بأن رفعها سيكون حلاً لمشاكل عديدة ومترابطة هو ظن ساذج. وترويجه إذا كان يخدم بروباغندا اعتبارها هي المشكلة، فسيصطدم بعد مدة بواقع أنها ليست المشكلة الوحيدة أو الأكبر، وليست إلا جزءاً من الحل إذا كان الحل الجذري مطلوباً.

لا شك في أن تدفق المساعدات الخليجية سيساعد على دفع الرواتب وما هو متأخر منها، وربما تنفيذ الوعود المتعلقة بزيادتها، ما ينعكس تنشيطاً للاقتصاد السوري بالمعنى الكلي. وكذلك سيكون حال المساعدات المتوقعة فيما يُسمى “التعافي المبكّر”، في حقول الطاقة والصحة والتعليم، فالإنفاق فيها سينعكس أيضاً على تنشيط الاقتصاد بمجمله، لأن لكل حقل منها متطلبات تكميلية تجعله مرتبطاً بالشبكة العامة.

النشاط المتوقع لن يمر بلا منغّصات، إذ من المتوقع في المقابل أن يرتفع معدل النمو، وأن يزداد التضخم الذي تدفع الفئات الأفقر ضريبته عادةً، لتعود المطالبة من جديد برفع الأجور والدوران في الحلقة ذاتها. ما يكسر الحلقة هو المضي في تحفيز الإنتاج الاقتصادي، وخلق فرص عمل حقيقية. لكن قبل الحديث عن الاستثمارات المأمولة من الضروري الانتباه إلى أن البلد سيبدأ رحلة التعافي من نقطة عجز تبلغ حوالى 500 مليار دولار، معظمها بسبب التدمير الكلي أو الجزئي، والقليل منها لتعويض الاهتراءات الناجمة عن التقادم في معظم الخدمات العامة.

تحتاج سوريا ضخ مليارات الدولارات سنوياً، لا أقل ربما من عشرة مليارات، وهو رقم ليس بالقليل، من أجل إعادة الإعمار، وأيضاً على سبيل الاستثمار الضروري كي لا يبقى الاقتصاد مرهوناً بالمساعدات إلى أجل بعيد. التعويل ولو جزئياً على الثروات الطبيعية فيه الكثير من المبالغة، لأن إنتاج النفط في أحسن الأحوال قد يحقق الاكتفاء الذاتي، أي أن الاهتمام ينبغي أن ينصرف إلى الاستثمار في مختلف القطاعات لتحقيق الاكتفاء فيها، ثم خلق فائض للمنافسة. مع التنويه بحاجة سوق العمل إلى مهارات قد لا تكون متوفرة بعد سنوات الحرب، فضلاً عن استقبال ملايين من اللاجئين في الجوار الذين لم يُتح لهم التأهيل الجيد، وهم سيضيفون عبئاً اقتصادياً على ما هو موجود حالياً.

ما سبق يبقى ضمن تصور إيجابي لسوريا موحَّدة آمنة. ومن دون بيئة فيها حد أدنى من الاستقرار والأمن، سيكون لامنطقياً توقّع وصول مساعدات ذات أثر يتعدى الإغاثة الإنسانية. بعبارة أخرى، يعود الربط الذي أتى ضمن تصريحات رسمية سورية، لكن معكوساً هذه المرة. فإذا صحّ ربط الأمن برفع العقوبات فهذا يستتبع تحقيقه من أجل جذب المساعدات والاستثمارات، وسيكون المطلوب تحقيقه بشفافية كافية تخرجه من سوق المساومات السياسية، أي يجب ألا يكون الأمن ورقة تستخدمها السلطة خارجياً، وإنما يجب أن يتحقق على نحو أكيد وموثوق لجهة استدامته؛ على الأقل يجب أن تكون الإجراءات جديرة بالثقة.

في الواقع، هناك ضخّ إعلامي، وتصريحات لمسؤولين، تضخّم من وجود الفلول. التضخيم الذي يخدم السلطة مؤقتاً، إذ يشدّ عصب مواليها والمترددين إزاءها، هو نفسه الذي لن يخدم طموحاتها الاقتصادية إذا أُخِذ ما يحكى عن الفلول على محمل الجد. أما إذا نُظر إليه كتضخيم متعمد فهذا سيشكك في مصداقية السلطة، والحال نفسه فيما يخص الكلام عن فصائل غير منضبطة، فتصديق الرواية يعني أن السلطة غير قادرة على ضبط الفصائل المعنية، وعدم تصديقها يؤدي إلى مسؤولية السلطة عن الظاهرة بما يزرع الشكوك حولها والتخوّف مما تضمره للمستقبل.

نضيف إلى ذلك، أن البلد محكوم بمرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات، أي أنه في حالة عدم يقين سياسي حتى انقضاء الفترة المحددة، ولا يغيّر من ذلك إعطاء وعود يُفهم منها تصرُّف الحكم كأنه باقٍ لأجل أبعد. عدم وضوح الأفق السياسي للبلد هو بمثابة نقطة إضافية من عدم الأمان، وأغلب الظن أن الأموال الوافدة إلى سوريا ستكون بمعظمها مساعدات دولية، لأن الرأسمال الخاص لن يغامر في حالة عدم يقين. وحتى التوجّه الذي أعلنه وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى النموذج السنغافوري لا يملك الجاذبية، فهو ابن زمنه قبل ستة عقود، وخلطة الاستبداد مع الانفتاح الاقتصادي السنغافوريين غير قابلة للتكرار؛ ليس بعد ثورة من أجل الحرية.

باستخدام مجاز متداول؛ سوريا عالقة في عنق الزجاجة، والخلاص منه قد يعني العودة إلى الزجاجة بدل الخروج منها. العقوبات الأميركية ليست وحدها المشكلة أو الحل، ويمكن الاستئناس بالتشويق الذي صنعه ترامب مساء الأحد. إذ بعد إعلان نيته إصدار الخبر الأشد تأثيراً أعلن عن خفض أسعار الأدوية. وبينما ترقّب البعض إعلانه عن مفاجأة مرتبطة بالصين أو بأوكرانيا وروسيا، أتى الخبر والاهتمام متوجهين كلياً إلى الداخل. لعل ترامب، على علاته، يشير إلى الوجهة الصائبة دائماً.