أزمة المثقف المتحوِّل إلى السياسة:

د. عبد الرحيم جاموس

قراءة تحليلية في اختلالات الدور والمسؤولية
تطرح العلاقة بين المثقف والسياسة واحدة من أكثر الإشكاليات حساسية في المجال العام العربي، لما تنطوي عليه من تداخلات بين المعرفة والسلطة، وبين دور المثقف النقدي ووظيفة السياسي البراغماتية. وفي السنوات الأخيرة أخذت هذه الإشكالية بُعدًا أكثر تعقيدًا، مع تصاعد ظاهرة “المثقف المتحوّل إلى السياسة”، الذي ينتقل من فضاء إنتاج المعرفة إلى فضاء إنتاج القرار، من غير أن يمتلك الأدوات أو الأخلاقيات التي تؤهله لممارسة دور سياسي مسؤول. وفي هذا التحوّل تتولد أزمة مركّبة، ليست أزمة المثقف وحده، بل أزمة المجتمع الذي يُفترض أن يخدمه، والنظام السياسي الذي يُفترض أن يسهم في إصلاحه، وهنا سنناقش جملة من التساؤلات التي تثيرها هذه الاشكالية المعقدة والمركبة.
مثقف بلا مشروع…
وسياسة بلا قيم …
يقوم الدور التقليدي للمثقف على النقد، والسؤال، وفتح أفق التفكير، وصياغة الأسئلة الكبرى التي يتعذر على السلطة ، أي سلطة ، طرحها على نفسها. إنه حارس الوعي، وضمير المجتمع، والمبادر في كشف مناطق العطب والخداع.
غير أن هذا الدور يتعرض للتشويش عندما يقفز المثقف إلى المجال السياسي من باب الطموح الشخصي أو السعي نحو النفوذ والوجاهة لا من باب المشروع الوطني أو الإصلاح المؤسسي.
هنا يتخلّى المثقف عن أدواته الفكرية لصالح أدوات السياسي، فيصبح الخطاب الذي كان نقديًّا يومًا ما، خطابًا تبريريًا، متسقًا مع مصالحه الجديدة داخل بنية السلطة.
هذا التحوّل لا يجري تدريجيًا ولا واعيًا، بل يحدث غالبًا تحت تأثير بيئة سياسية مشوَّهة، تعيد إنتاج الأشخاص لا الأفكار، وتستوعب المثقف داخل منظومتها دون أن تمنح له فرصة الإصلاح الحقيقي. النتيجة هي “سياسة بلا قيم”، و”مثقف بلا مشروع”، وتبادل للمواقع على حساب المجتمع وحقوقه.
الانتهازية كمنهج…
وتآكل الشرعية الأخلاقية …
عندما يتماهى المثقف مع السلطة أو مع أي فصيل أو حزب سياسي ، يفقد أهم رأس مال يمتلكه: شرعيته الأخلاقية.
غير أنّ أخطر أشكال هذا التماهي هو تحوّل المثقف إلى لاعب سياسي انتهازي، يوظف معرفته وخبرته الثقافية في خدمة أجندات ضيقة، حزبية أو شخصية، بدل أن يستخدمها لتوسيع مساحة النقاش العام وتعزيز الوعي الجمعي.
الانتهازية هنا تتجلى في ثلاثة مظاهر أساسية:
1. التحوّل من النقد إلى التبرير: فبدلًا من طرح الأسئلة المقلقة، ينشغل المثقف السياسي بتلميع موقعه، أو بتسويغ الأخطاء، أو بخلق سرديات تخدمه.
2. خطاب مزدوج: لغة أخلاقية في العلن، وممارسة سياسية معاكسة في الواقع، وهو ما يخلق فجوة بين القول والفعل تضعف مكانته داخل المجتمع.
3. التخندق: حيث يتحول المثقف إلى طرف في الصراع بدل أن يكون جسرًا للفهم والحوار، فيفقد موقعه الطبيعي كفاعل مستقل.
بهذا المعنى لا يصبح المثقف جزءًا من الحل، بل يتحول إلى جزء من المشكلة، إذ ينتج خطابًا مشوشًا يعيد إنتاج الانقسام بدل تفكيكه، ويضعف إمكانية بناء مشروع وطني جامع.
المثقف في فلسطين…
بين التحدي الوطني وإغراءات السياسة …
تتضاعف خطورة هذه الإشكالية في السياق الفلسطيني بحكم تعقيد الحالة الوطنية، وتداخل المقاومة بالسياسة، وغياب المؤسسات الديمقراطية، واستمرار الاحتلال.
وفي هذه البيئة يعاني المثقف ضغطين متوازيين: ضغط الانحياز الوطني الذي يُفترض أن يقوده نحو الدفاع عن الحق والحرية والعدالة، وضغط الواقع السياسي المنقسم الذي يحاول استقطابه أو توظيفه.
عندما يخضع المثقف لإغراءات هذا الواقع، يفقد بوصلته سريعًا، فيتحول من صانع للوعي إلى مستثمر في الأزمة، ومن رافع لشعارات الحرية والكرامة إلى مروّج لخطاب الانتصارات الوهمية أو المزايدات الفصائلية.
ويصبح الطرف الأقرب للسلطة هو الأكثر قدرة على استمالة بعض المثقفين وتحويلهم إلى أدوات تبرير أو ناطقين سياسيين غير رسميين.
هذه الديناميكية تؤدي إلى تآكل ثقة الجمهور بالمثقف، وتعميق الفجوة بين الثقافة والسياسة، وتراجع دور النخبة في قيادة الوعي الجمعي نحو مواجهة الاحتلال ومقاومته بمشروع وطني موحّد وحر ومستقل.
نحو إعادة تعريف الدور وتحقيق التكامل…
إن الخروج من أزمة المثقف المتحوّل إلى السياسة لا يتطلب عودة المثقف إلى برجه العاجي، ولا انسحابه من المجال العام، بل يستلزم إعادة تعريف دوره، ووضع حدود واضحة بين وظيفته النقدية ووظيفة السياسي التنفيذية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال:
استقلال المثقف عن السلطة الحاكمة، وعن الفصائل والأحزاب السياسية، وعن إغراءات النفوذ والموقع.
الالتزام بالأخلاق المهنية ورفع كلفة الخطاب التحريضي والتبريري الذي يُستخدم لتزييف الوعي أو التلاعب بالرأي العام.
تعزيز ثقافة الحوار بدل التخندق والمزايدات.
المساهمة في إنتاج رؤية وطنية تجمع بين المقاومة المشروعة والعمل السياسي الرشيد، بعيدًا عن الاستقطاب الحزبي.
تحويل الثقافة إلى قوة مقاومة لا إلى ملحق إعلامي لأي جهة.
بهذا فقط يستعيد المثقف دوره الطبيعي كقائد للوعي، ومحرّك للنقاش العام، وشريك في بناء مشروع سياسي وأخلاقي يليق بتضحيات الشعب الفلسطيني وتاريخه الوطني. فالثقافة ليست زينة للسياسة، بل هي معيارها الأخلاقي، وبوصلة الطريق نحو المستقبل.
د. عبدالرحيم جاموس
الرياض 5/12/2025 م