شكّل قيام حلف شمال الأطلسي عام 1949 جدلاً دولياً واسعاً، وتسبب في العديد من الأزمات حتى بين دوله ال 32، وعلى الرغم من وجود مبررات قوية لقيامه بحسب المنضمين إليه، واستمراره حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي شكل السبب الرئيس لإطلاقه وهندسته لمواجهة الكتلة الاشتراكية وحلفائها آنذاك.
وكما الأمس وفي كل محطة من محطات الأزمات الدولية وبخاصة الأوروبية، شكلت عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الثانية، مناسبة لرفع مستوى التحديات التي تواجه الحلف، وبالتحديد الموقف الأمريكي، الذي يطلقه الرئيس ترامب على قاعدة الكُلف المادية العالية التي تدفعها الولايات المتحدة الأمريكية مقارنة بباقي الأعضاء. ومما زاد من منسوب التحديات مؤخراً، الأزمة الأوكرانية، وما جرى في لقاء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، من مشادات غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الدولية، على قاعدة محاولة إجبار كييف على عقد اتفاقيات لمصلحة واشنطن قيمتها مئات المليارات من الدولارات، كمقايضة أو بدل ما أنفقته واشنطن في دعمها للحرب بمواجهة موسكو خلال السنوات الثلاث من عمر الحرب الجارية حالياً.
وعلى قاعدة توتر العلاقات الأمريكية الأوكرانية مؤخراً، اندفعت غالبية دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة المنضمة لحلف الناتو إلى اتخاذ مواقف تصعيدية للحد من محاولات واشنطن لحشر أوكرانيا في حربها مع موسكو، لجهة تمويل التسلح والذي تعتبره الولايات المتحدة أمراً غير مجد، بل تدفع أوكرانيا باتجاه القبول بإنهاء الحرب، وهو أمر يعتبره الكثيرون مواقف مؤيدة لموسكو ومجحفة بحق أوكرانيا.
لقد اعتبرت العديد من الدول الأوروبية التصعيد الأمريكي في وجه أوكرانيا مناسبة قوية لموسكو لاستغلال علاقاتها الأوروبية في حربها مع أوكرانيا، وهو أمر من شأنه ضعضة الأمن الأوروبي وتقديم واشنطن خدمة مجانية لموسكو في هذا الإطار، ما دفع إلى تكوين بيئة مواجهة تتمثل في طرح تأمين 800 مليار دولار لأوكرانيا في حربها مع موسكو، وهو ما تعتبره واشنطن أمراً موجهاً ضدها على قاعدة إجبار كييف على الموافقة لإنهاء الحرب مع موسكو ولو كان على حسابها مباشرة.
وفي الواقع إن هذا السلوك الأوروبي ليس بجديد في معرض العلاقة مع الولايات المتحدة، فثمة العديد من المحطات التي بدت في مستوى مواجهات غير عادية، ومن أبرزها مثلاً طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في العام 2018 إنشاء جيش أوروبي لمواجهة التحديات الأوروبية التي اعتبرها آنذاك مقلقة وتستوجب تحركاً فاعلاً، وهو أمر كان ولا تزال له خلفيات أكثر من ذلك، وهو محاولة للاعتماد على توفير المظلات الأمنية والعسكرية بقوى أوروبية خالصة بعيدة عن الدعم الأمريكي وبالتحديد بيئة حلف الأطلسي.
ويشار هنا إلى أن تلك الرؤية الفرنسية ليست بجديدة، بل كانت باريس سباقة في هذه التوجهات أكثر من غيرها من الدول الأوروبية، حيث انسحبت من نطاق المظلة النووية للحلف خلال عهد الرئيس شارل ديغول كاعتراض على سياسات واشنطن، إلا أنها عادت وانضمت مجدداً في العام 2017، وهي مواقف اعتادت باريس على ولوجها، رغم عدم فعاليتها، إذ إن باريس وغيرها من العواصم الأوروبية عادة ما ترفع الصوت بوجه واشنطن، إلا أنها سرعان ما تتراجع وتعود للبيئة الأطلسية الحاضنة بزعامة واشنطن.
اليوم وربما الأزمة الأوكرانية شكلت تحدياً مختلفاً عن السلوكيات الأمريكية الأوروبية السابقة، حيث تشعر معظم الدول الأوروبية وبخاصة في الولاية الثانية للرئيس ترامب أنها تهديد عملي، ذلك بفعل الطروح والسياسات الجدية المعلنة، ليس بمواجهة أوروبا فقط، وإنما تجاه العديد من الفواعل الدولية، كطرح ضم كندا وقضية قناة بنما وجزيرة غرينلاند وأسلوب مواجهة الصين، علاوة على سياسات الرئيس ترامب تجاه قضايا الشرق الأوسط وآخرها تحديداً اقتراح «ترانسفير» للشعب الفلسطيني من قطاع غزة.
يواجه حلف الناتو حالياً أصعب الظروف، في وقت لا بديل جدي له، فالجيش الأوروبي الذي طرحه الرئيس الفرنسي ماكرون، واجهه ترامب بمواقف صلبة لا نقاش فيها، معتبراً أن هذا الجيش المقترح لا فائدة منه ولا يشكل بديلاً عملياً عن الحلف، واقترح كبديل لذلك زيادة إنفاق الدول الأوروبية في ميزانيتها السنوية بنسبة خمسة في المئة لدعم الحلف، وبالتالي رفض واضح لمحاولة الانسلاخ الأمني عنه.
اليوم تحتفل واشنطن بالعيد الماسي لنشأة الحلف في العام 1949 الذي كرس هيبتها العالمية في مواجهة الاتحاد السوفييتي حتى انهياره، كما تابعت عبره تأكيد المؤكد للسيطرة ومن غير المنتظر تخليها عن ذلك بخاصة أن ولاية الرئيس ترامب الثانية وضعت أسساً ومبادئ تعيد جمع القوة الأمريكية في النظام العالمي، بعد ما برز من مظاهر فُسرت بأفول هذه السيطرة.
إن السيناريوهات المتصلة بمستقبل حلف الأطلسي مرهونة أولاً وأخيراً بمدى جدية وقوة الخيارات المتاحة أمام الدول الأوروبية لمحاولة تعديل موازين القوى القائمة. وفي الواقع، ليس ثمة حتى الآن فرص جدية لمضي بعض الدول الأوروبية بخيارات الانفصال، وجل ما تستطيع فعله عملياً الاعتراض ولو بصوت عال لبعض الوقت، قبل إعادة التموضع بظروف غير مختلفة عن الواقع السائد، وبالتالي ما هو سائد اليوم في ظل تداعيات الأزمة الأوكرانية أمر لن يغير عملياً وفعلياً في المعطيات القائمة حالياً.
*رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
الخليج الاماراتية