كنت قد قرأت كتاب “عقيدة الصدمة” لصاحبته، “نعومي كلاين”، بنصيحة من أخي محمود عبيد الله. وبينما أتابع بكل قهر وشعور بخذلان الذات والشعب والوطن، ما تتعرض له غزتنا وأبناء شعبنا من حملة تطهير عرقي جديدة في فلسطيننا المحتلة بأبشع الصور والمجازر، أتساءل: هل تستحق عملية “السابع من أكتوبر” كل هذه المجازر أم هو استثمار الاحتلال للحدث؟
فقلت، قد يوجد الجواب في “عقيدة الصدمة” التي تقوم على مفهوم بسيط وفعال للأسف: صناعة “فراغ زمني بين تسارع الأحداث والمعلومات وتفسيرها” يؤدي للظروف الأفضل للاستثمار، “حين يكون الدم لا يزال على الأرض”.
نشأت “عقيدة الصدمة” في خمسينات القرن الماضي بالولايات المتحدة، كمحاولة لمحاكاة مشروع لطبيب نفسي، ممول من المخابرات الأمريكية في سياق الحرب الباردة، حاول فيه شطب ذاكرة ووعي الانسان، لتحويلها لصفحة بيضاء يمكنهم كتابة ما يريدون عليها، ما سموه ب “الرجعة”، أي إرجاع الانسان إلى ما قبل المعرفة والهوية، وهو العلاج المقصود. أما الصدمة، فهي الموجات الكهربائية الموجهة للدماغ، بالتوازي مع العزل الحسي، عبر الحرمان من الشعور بمدخلات الحواس، إلى درجة تغليف اليدين لمنع نقل الأحاسيس للدماغ !
التقط “ميلتون فريدمان” ومنظري “رأسمالية الكوارث” التجربة، وقرروا تطبيقها على الشعوب، عبر مسيرة طويلة، يمكن اختصاراها بحكاية “صبيان شيكاغو”، وهم طلاب ابتعثتهم بلادهم للدراسة في “جامعة شيكاغو” فتشربوا فيها أصول “الرأسمالية المتوحشة”، وعادوا إليها للعمل كمسؤولين يفرضون فيها ما تعلموه. ولتطبيق النظرية بشكل كامل، كان لا بد من خلق ظروف صعبة ومخيفة للغاية وبشكل مباغت، الصدمة، لتسهيل فرض ثالوث “النيوليبرالية”: الخصخصة وعدم تدخل الدولة بالأسواق والأسعار والرواتب…إلخ، بالإضافة لفتح الحدود أمام الشركات متعددة الجنسيات بلا عوائق.
وعادة ما كانت الصدمة مصطنعة، كانقلاب عسكري مباغت يعقبه قمع شديد ومكثف يهدم قوة الشعب وقواه المنظمة على الرفض والمقاومة، كما في التشيلي مثلا، ومنها طبيعية يتم استغلالها بسرعة، مثل “تسونامي” في سيريلانكا. وأما أثرها فيتلخص في “ارتباك الشعب والتقاعس الجماعي والعجز عن مجاراة نمط التغيير”.
ولأن الحلم الصهيوني الأهم هو التخلص من هويتنا الوطنية الفلسطينية، وهو ما لا يتمكن منه، خصوصا بعد تكريسها بفعل ثورة 1965 المباركة، نجده لا يزال يرى طريقهُ إلى ذلك في التطهير العرقي وصناعة فلسطيني جديد يحارب هوية شعبه الوطنية والسياسي.
وحتى اللحظة، لا أستطيع الجزم بأن (السابع من أكتوبر) كان صناعة صهيونية أو فرصة قُدِمَتْ لهم على طبق من ذهب. المهم الآن، أن تلك العملية شكّلت “الصدمة” المطلوبة للتجمع الصهيوني والعالم الاستعماري لتسهيل البدء بالتطهير العرقي بوحشية مرعبة وعلى الهواء مباشرة !
وهي بدورها أطلقت “الصدمة” التي يتعرض لها أبناء شعبنا وتتمثل في القتل والتدمير والاستخفاف بالأرواح والأرزاق والممتلكات وفي المناورات الإعلامية المكثفة. وما استمرار المذابح بحجة عدم التوصل لاتفاق إلا لمتابعة “العلاج بالصدمة”، وهو هنا، التهجير القسري (أو الطوعي كما سيحاولون تسميته)، وايجاد فلسطيني لا ينظر لأبعد من تأمين حاجاته الأساسية، بشكل أصعب مما كان بين عامي 1948 و 1965.
وهنا نقول: لا شك أبدا بتمسك أبناء شعبنا المطلق بأرضنا وهويتنا، وخصوصا بعد تجارب نكبتي 1948 و1967، ولا بنجاحنا في بناء هوية وطنية وسياسية راسخة تتجسد في م ت ف، ولا بتكريس وجودنا وهوية أرضنا الأصيلة. على هذا الأساس جاءت حاجة الاحتلال الصهيوني للصدمة والترويع مرة أخرى، لخلخلة الهوية والتمثيل والتمسك بالبقاء والصمود، فكان (السابع من أكتوبر) فرصة لا يمكنه تفويتها. وما طرح مخطط التهجير والعمل عليه علانية خلال مذبحة الإبادة، إلا من متطلبات “العلاج بالصدمة”، فَ “تداول الخطة بالعلن وبالتفصيل يقرب أجل مفعولها. وكلما ازدادت معرفة الشعب بها، سهلت ردود فعله عملية التغيير”.
على هذا الأساس ننظُر (للسابع من أكتوبر) و(لرد الاحتلال عليه) وإن جاء في سياق رد الفعل على استمرار الاحتلال والحصار. فلولاه لما تمكن الاحتلال بقيادة (نتنياهو) من شن هكذا عدوان مهول على فلسطيننا وهويتها وصمود أبناء شعبنا فيها. ولا أتفق مع الذين يقولولن بعدم حاجة الاحتلال للذرائع للقيام بعدوان في هذا الحجم وله هذه التداعيات، ولعل في محاولته تبرير اغتيال مسعفين في غزتنا للعالم مثال ودليل. وبالتالي، ولأول مرة منذ 1967 يوضع مخطط التهجير على سكة التنفيذ. والمشكلة الأخرى، أن أصحاب اليوم المشبوه يصرون كما (نتنياهو) على استمرار “الصدمة” وبتبريرات سخيفة مقابل ما يشتغل عليه الاستعمار .
ونقول أيضا: لا يمكننا التخلي عن الأمل بالرغم من كل ما تعيشه غزتنا ويختبره أبناء شعبنا، فنحن نستوعب أن “الذاكرة الفردية والجماعية، هي أفضل مادة ماصة للصدمة”. وذاكرتنا تؤكد على عدم إمكانية شطبنا، وعلى هويتنا ومسيرتنا ومنجزاتنا، وعلى خروج قضيتنا من أزمات لا تقل خطورة عن هذه بمقاييس أوقاتها. وبالتالي، هي أول المستهدفين دوما، وأهم أعداء الصهيونية والإخونج ومن خلفهم على حد سواء. ونؤكد على قناعتنا بأنهم استهدافوا غزتنا بالصدمة، وعلى ثقتنا الكاملة بأن أبناء شعبنا سيثبتون للصهيونية والإخونج والعالم فشل “العلاج بالصدمة”، الذي يهدف لتحويل كل مرفوض بثبات وقوة، كالتهجير، إلى مطلب ووسيلة للخلاص ! فالقصة عندنا أكبر من خدمة الاخونج لمشاريع إيران أو لقطر في تنفيذ المهام المُوكلة إليها أو لعرقلة تطبيع ما… إلخ، وأهم من كل العناوين التي تُغطي السبب الأول الذي يظهر جلياً عبر انعاكسات “الصدمة”، والتي تصب كلها في مصلحة الاستعمار، بل هي، أي القصة، على صلة بديمومة قضيتنا من الأساس، وبإعادة ترتيب أوراق المنطقة في ظل الحرب العالمية المتوقعة.
فالصبر يا أبناء شعبي، ولا للخوف من شبيحة الإخونج (حماس) الذين يقتلون وينكلون بمن يظنونه خطرا على حكمهم ومن يُحملهم القدر الذي يستحقون من المسؤولية بينما يُمعِن الاحتلال في قتل الجميع وتدمير كل شيء. ألم يصنعوا “الصدمة” سوياً؟
21 \ ذو القعدة (11) \ 1446