السياسي – ألمانيا، الدولة التي تُعرَف بسيادة القانون وفصل السلطات، تجد نفسها في علاقة استثنائية ومعقدة مع إسرائيل. هذه العلاقة محكومة بإرث تاريخي ثقيل من الحقبة النازية التي تركت بصمات عميقة على السياسة الألمانية، سواء الداخلية أو الخارجية.
وبينما تلتزم ألمانيا رسميًا بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنها تبدو عاجزة عن تطبيق ذلك على إسرائيل، حيث يشكل النفوذ الإسرائيلي والماضي المشحون بعقدة الذنب عائقًا دائمًا أمام تحقيق العدالة.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تسعى ألمانيا إلى تصحيح إرثها التاريخي بأي ثمن كان ومهما كلّف الأمر. أحد أبرز ملامح هذا المسعى هو تقديم الدعم الكامل وغير المشروط لإسرائيل، وهو موقف ينبع من رغبة ألمانيا في التكفير عن الجرائم التي ارتُكبت بحق اليهود في الحقبة النازية.
هذا الالتزام جعل أمن إسرائيل جزءًا من الأمن القومي الألماني. وقد تجلى ذلك بوضوح في التصريحات المتكررة للساسة الألمان الذين يعتبرون أن أمن إسرائيل “غير قابل للتفاوض”. لكن هذا النهج يؤدي إلى تقييد ألمانيا وجعلها عاجزة عن انتقاد السياسات الإسرائيلية، حتى في ظل المجازر التي تُرتكب بحق الفلسطينيين، مثل تلك التي تحدث في قطاع غزة. يتم دائمًا تبرير هذه الجرائم تحت ذريعة “الدفاع عن النفس”، بينما يلتزم السياسيون الألمان والأحزاب الألمانية الصمت خوفًا من الاتهام بمعاداة السامية.
اللوبي الإسرائيلي ونفوذه في ألمانيا
إلى جانب عقدة الذنب التاريخية، يعزز اللوبي الإسرائيلي قبضته على السياسة والإعلام في ألمانيا، مما يجعل العلاقة مع إسرائيل أكثر تعقيدًا. يتمتع هذا اللوبي بنفوذ واسع النطاق، حيث يلعب دورًا محوريًا في تشكيل الخطاب السياسي والإعلامي الألماني وهو الذي له تأثيرا كبيرا في صناعة الرأي العام في المجتمع الألماني بما يخدم المصالح الإسرائيلية.
وكما أشرت في كتابي “ألمانيا بين عقدة الذنب والخوف”، فإن اللوبي الإسرائيلي لا يكتفي فقط بتعزيز الدعم لإسرائيل، بل يفرض خطوطًا حمراء تمنع حتى أي انتقاد للسياسة الإسرائيلية ومناقشة أي انتهاكات تُرتكب بحق الفلسطينيين. مثال صارخ على ذلك حدث عندما قدّمت دعوى قضائية ضد قادة المجلس المركزي لليهود في ألمانيا بعد أن اتهموني بمعاداة السامية. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة كانت غير مسبوقة، إلا أنها قوبلت بحملة إعلامية عنيفة تهدف إلى تشويه صورتي وإسكات صوتي، وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك واعتبر دفاعي عن نفسي أمام القضاء الألماني تجاوزًا للخطوط الحمراء.
الإعلام كأداة للنفوذ
الإعلام الألماني، الذي يُفترض أنه يعكس القيم الديمقراطية ويعزز حرية التعبير، بات في كثير من الأحيان وسيلة لتحقيق أهداف اللوبي الإسرائيلي. حيث تُستخدم وسائل الإعلام لتوجيه الرأي العام وتصوير إسرائيل كضحية دائمة، بينما يتم التعتيم على المجازر وأعمال القتل والتدمير والتهجير المبرمجة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني. وهذا كما أوضحته في كتابي “كمامة لأفواه الألمان ” (Maulkorb für Deutschland)، فإن الإعلام الألماني لا يكتفي فقط بتبرير السياسات الإسرائيلية، بل يهاجم بشراسة أي شخصية أو جهة تحاول تسليط الضوء على هذه السياسات والأعمال الإجرامية. هذا النفوذ الإعلامي يجعل السياسيين الألمان حذرين للغاية من اتخاذ أي موقف قد يُفسر كمعارضة أو نقد للسياسة الإسرائيلية ويتحاشون النقاش حول ذلك ويعتبرونه وكأنه حقلا مليء بالألغام ويمكنه أن ينهي الحياة السياسية لكل شخصية ألمانية إذا ما تم تفسير ما تقوله بأنه عداء للسامية وهذا حتى لو كان ذلك الشخص يهودي الديانة. هذه التهمة تُستخدم كأداة فعّالة لإسكات الأصوات المعارضة، وكأنها مطرقة معلّقة فوق رؤوس كل الشخصيات الألمانية وأصحاب القرار، مما يخلق بيئة سياسية وثقافية مشحونة بالخوف والرقابة الذاتية.
شبكة اللوبي الصهيوني وتأثيرها الدولي
إضافة إلى ذلك، تُعتبر شبكة اللوبي الصهيوني في العالم، سواء في أمريكا أو أوروبا أو في دول أخرى، من العوامل المؤثرة في السياسة الدولية بشكل عام، حيث تتبنى دعمًا كبيرًا لإسرائيل في العديد من المجالات. هذه الشبكة معروفة بقوتها الواسعة ومنظماتها الكثيرة وتأثيرها على القرارات السياسية في الكثير من الدول وخاصة الغربية منها. على سبيل المثال، منظمة “AIPAC” (اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة) لديها أكثر من مئة ألف عضو و17 مكتبًا إقليميًا، ويعمل في مبناها الرئيسي عدد يفوق العاملين في الكونغرس الأمريكي نفسه. بالطبع هناك منظمات مشابهة في كندا وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا ودول كثيرة أخرى.
الدعم العسكري والاقتصادي لإسرائيل
إلى جانب الدعم الإعلامي والسياسي، تلعب ألمانيا دورًا محوريًا في تعزيز القدرات العسكرية الإسرائيلية. يُعتبر إهداء الغواصات الألمانية لإسرائيل، التي يمكن تحميلها برؤوس نووية، أحد أبرز مظاهر هذا الدعم. هذه الغواصات ليست مجرد أسلحة تقليدية، بل تمثل جزءًا من الترسانة الاستراتيجية الإسرائيلية التي تُستخدم لتكريس هيمنتها العسكرية في المنطقة.
بالإضافة إلى الدعم العسكري، فإن المساعدات الاقتصادية الألمانية لإسرائيل تُظهر التزامًا طويل الأمد بتعزيز الاقتصاد الإسرائيلي. لقد دفعت ألمانيا أكثر من 80 مليار يورو كتعويضات لإسرائيل ولليهود، وهو ما لا يعكس فقط الرغبة في التكفير عن الماضي، بل يشير أيضًا إلى مدى استعداد ألمانيا لدعم إسرائيل ماليًا بغض النظر عن سياساتها أو انتهاكاتها.
الديمقراطية الألمانية تحت الضغط
تُظهر العلاقة بين ألمانيا وإسرائيل كيف يمكن للتاريخ أن يُستخدم كأداة لتقييد الديمقراطية. وبينما تسعى ألمانيا إلى التصالح مع ماضيها، تجد نفسها مُكبلة بأغلال هذا التاريخ، مما يجعلها غير قادرة على تبني مواقف عادلة ومستقلة.
عدم تطبيق ألمانيا قرارات محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، ورفضها دعم أي خطوات قد تُفسر على أنها انتقاد لإسرائيل، يعكسان الخوف العميق من مواجهة اللوبي الإسرائيلي أو التسبب في أي أزمة سياسية مع إسرائيل.
ألمانيا تقف أمام مفترق طرق تاريخي. استمرارها في النهج الحالي يعني أن الديمقراطية الألمانية ستظل رهينة لعقدة الذنب والخوف. لكن إذا قررت ألمانيا التحرر من هذه القيود، فقد تتمكن من تبني سياسة أكثر توازنًا وعدالة. الدعم الألماني غير المشروط لإسرائيل، سواء من خلال المال أو السلاح أو الإعلام، يجب أن يُعاد تقييمه بعناية.
على المجتمع الألماني أن يدرك أن السكوت عن الإجرام الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني أو تبريره لن يكفّر عن الجرائم النازية. الإجرام النازي ضد اليهود لا يبرر الإجرام الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، ومن يسكت عن هذا الإجرام يصبح شريكًا فيه.
الساسة الألمان وسلطات الدولة الألمانية، وخاصة الأمنية والقضائية منها، كلها تدعون الله ليلاً ونهارًا أن لا يحاول “بنيامين نتنياهو” أو “يوآف غالانت” زيارة ألمانيا، لأن هكذا زيارة سيضع ألمانيا أمام تحدٍ كبير يتمثل في الوقوف بين تطبيق القانون الدولي أو الاستمرار في الخضوع لعقدة الذنب والخوف الألمانية تجاه إسرائيل.
*نائب ألماني سابق