التهجير هو مخطط إسرائيلي بالأساس، استهدف سكان غزة، تحت ذريعة الحرب التي أطلقتها حكومة بنيامين نتنياهو، قبل عامين تقريبا، انتقاما لأحداث السابع من أكتوبر، بينما كان الهدف الحقيقي هو وأد الدولة الفلسطينية قبل ولادتها، وانتزاع الشرعية من أصحابها، عبر تقويض حل الدولتين، وذلك بتجريد الوطن المنشود من مواطنيه، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، ارتكبت تل أبيب كافة أنواع الانتهاكات، التي دارت بين قصف المدنيين وتجويعهم، وإغلاق المعابر أمام المساعدات المقدمة لهم، إلا أن ثمة وجها آخر لـ”التهجير” تمارسه الإدارة الأمريكية مؤخرا، يتجلى في حرمان الفلسطينيين من التعبير عن أنفسهم أمام الأمم المتحدة، خلال اجتماعات الجمعية العامة المقررة في هذا الشهر، وهو ما يمثل مؤشرا خطيرا في المواقف الأمريكية في لحظة دولية فارقة، ليس فقط في إطار القضية الفلسطينية وإنما أيضا فيما يتعلق بنظام عالمي يبدو في طور التشكيل.
ولعل الهدف المشترك الذي يجمع بين تل أبيب وواشنطن، رغم اختلاف الممارسة، بين الوضع الميداني، والمضمار الدبلوماسي، يتجلى في استهداف الشرعية التي تحظى بها فلسطين، فالأولى تجرد الدولة المنشودة من شرعيتها عبر انتزاع عنصر المواطن، بينما تسعى الثانية إلى تغييب القضية عن المنصة الدولية الأكبر، والمنوطة في الأساس بتحقيق العدالة الدولية، والانتصار لحقوق الشعوب، وهو ما يساهم في تقويض مصداقيتها، وهو ما يصب في صالح الرؤى التي يتبناها الرئيس دونالد ترامب، والذي يحمل موقفا مناهضا للمنظمة الأممية بدا بوضوح منذ ولايته الأولى، ويتجلى في مواقفه العامة المناوئة للمؤسسات بشكل عام.
قرار إدارة الرئيس ترامب بمنع إصدار تأشيرات لوفد السلطة الفلسطينية، لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، يحمل في طياته العديد من الأبعاد، ربما أبرزها استباق سلسلة من الاعترافات الغربية المنتظرة بالدولة الفلسطينية، بخطوة من شأنها تغييب القضية، عبر حرمان وفد السلطة من الحضور، خاصة وأن الدول التي أعلنت اعتزامها الاعتراف بفلسطين، اتخذت قراراتها دون رجوع لواشنطن، وهو الأمر الذي ربما اثار استفزاز البيت الأبيض، والذي يسعى نحو تعزيز قيادته للعالم، عبر ما سبق وأن أسميته في مقالات سابق بـ”هيمنة أحادية ذاتية الشرعية”، لا تقوم في الأساس على دعم قوى أخرى (المعسكر الغربي)، وإنما تستلهم شرعيتها من قوتها ونفوذها، وبالتالي فإن قرار منع الفلسطينيين من المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة، بمثابة انتصارا للكبرياء الأمريكي أكثر منه انحيازا لإسرائيل، أو بالأحرى هو البعد ذات الأولوية في الرؤية الأمريكية في اللحظة الراهنة، على اعتبار أن مواقف واشنطن الداعمة للدولة العبرية تعد بمثابة ثوابت دبلوماسية تقليدية معتادة.
وامتدادا للسياق نفسه، يمثل حرمان الفلسطينيين من المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة، انتزاعا لحق الأمم المتحدة، والتي يناهضها الرئيس ترامب كما أسلفنا، في إضفاء الشرعية على المواقف الدولية، لتحل محلها الولايات المتحدة بقرارات منفردة أحادية، وهو ما يمثل امتدادا لمواقف سابقة، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، منها الاعتراف الأمريكي بالقدس الموحدة كعاصمة لإسرائيل خلال ولاية ترامب الأولى، وهو الموقف الذي أثار الكثير من الجدل، في إطار تعارضه مع الشرعية الدولية، التي تمنح فلسطين القدس الشرقية عاصمة لها.
قرار إدارة ترامب بمنع إصدار تأشيرة لأعضاء الوفد الفلسطيني بالأمم المتحدة، يمثل الوجه الآخر لقرار القدس فيما يتعلق بالانحياز الأمريكي الصارخ للدولة العبرية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ولكن في الوقت نفسه يحمل أهدافا أعمق، ستترك تداعيات كبرى على القضايا الدولية الأخرى، وهو ما ينبغي أن تلتفت إليه القوى الدولية والإقليمية الأخرى، فالهدف هو تحويل بوصلة الشرعية نحو واشنطن وليس نيويورك، وهو ما يعني مواقف البيت الأبيض بمفرده هي من تحكم العالم وتسيطر على قضاياه، على غرار الوضع في أوكرانيا، والقضايا التجارية والأزمة في كوريا الشمالية، وغيرها من القضايا الأخرى سواء المتفاقمة أو المرشحة للتفاقم بصورة كبيرة خلال المرحلة المقبلة.
تحويل بوصلة الشرعية من الأمم المتحدة إلى البيت الأبيض يمثل تطبيقا عمليا لفكرة الهيمنة الأحادية، فإذا كانت السيطرة الأمريكية على العالم عبر المنظومة الأممية، والمعتمدة على الفيتو، اتسمت بازدواجيتها وسيطرة المصالح الفردية للقوى الكبرى على القرارات الصادرة منها، فإنها ستتجه، حال نجاح المخطط الأمريكي، نحو أحادية مطلق تقوم على “فيتو وحيد”، لا تملكه أي قوى دولية سوى الولايات المتحدة، عبر ما يمكننا تسميته بـ”أمركة” الشرعية الدولية، ولكن يبقى التساؤل حول ما إذا كانت القوى الدولية قادرة على المواجهة خلال اجتماعات الجمعية العامة المرتقبة، أم أن الأمور ستسير كما تخطط لها إدارة الرئيس ترامب.
في الواقع، يبدو أن اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها المقبلة ستكون أحد أصعب اختبارات المنظومة الأممية، فالعالم أمام أحد قرارين، إما الخضوع للقيادة الأمريكية، وهو ما يعني ليس فقط المقامرة بفلسطين أو الاستقرار في الشرق الأوسط، وإنما أيضا مستقبل العديد من القضايا الأخرى، وبالتالي تبقى الحاجة ملحة إلى صوت دولي موحد في مواجهة الأحادية الأمريكية التي تنشدها إدارة ترامب، عبر الاعتراف الجماعي بالدولة الفلسطينية، والضغط لحصولها على العضوية الكاملة بالمنظمة الدولية، وهو ما يمثل في اللحظة نفسها انتصارا للأمم المتحدة، والاحتفاظ بحد أدنى من الديمقراطية الدولية، والتي يمكن من خلالها للقوى المؤثرة القيام بأدوار ملموسة فيما يتعلق بمختلف القضايا، بعيدا عن النهج الذي يسعى البيت الأبيض إلى إرسائه.
وعلى الرغم من الرؤية الأمريكية سالفة الذكر، والقائمة على تعزيز فكرة “الهيمنة الأحادية ذاتية الشرعية”، نجد أنها تفتح الباب أمام بدائل أخرى للقوى المنافسه لها، لشرعنة قرارتها بعيدا عن الأمم المتحدة، والتي أصبح وجودها داخل الأراضي الأمريكية تهديدا للعدالة الدولية، من خلال تنظيمات صاعدة، على غرار “بريكس” ومنظمة شنغهاي، وغيرهما من التنظيمات الأخرى التي باتت تحظى بإقبال دولي، وربما مصداقية شعبوية، مما يمكنها من إضفاء الشرعية على المواقف التي تتبناها الدول الأعضاء تجاه القضايا، وهو ما يخلق حالة أشبه بـ”الفوضى” تنظيمية، في إطار حلقة من “الشرعيات المتصارعة” التي قد تمدد حلقة الصراع الدولي إلى سياقات أبعد في المستقبل.
وهنا يمكننا القول بأن ما بدأ كقرار أمريكي أحادي بحرمان الفلسطينيين من منصة الأمم المتحدة، لا يقف عند حدود القضية الفلسطينية وحدها، وإنما يمثل أحد تجليات التحول الأعمق في النظام الدولي، حيث تتراجع المرجعية الأممية لحساب “فوضى تنظيمية” تتنازعها الكتل الصاعدة والطموحات الأمريكية، لتصع العالم عند مفترق طرق، فإما أن تستعيد الأمم المتحدة جزءًا من مصداقيتها عبر مواجهة الانحياز السافر، أو أن تفسح المجال لشرعيات بديلة قد لا تحمل الاستقرار المأمول، وإنما مزيدًا من الانقسام والاضطراب.