أمريكا التي نعرفها 

أمين الحاج

ليست أمريكا هي الدولة التي طالما قدمت نفسها حامية للديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا تلك التي تروج لقيم العدالة والحرية كما يظهر في خطابها السياسي والإعلامي.

فأمريكا التي نعرفها – نحن شعوب العرب – هي الدولة التي لم تتردد عبر تاريخها الطويل عن الاصطفاف خلف قوة الاحتلال وجبروته، والتستر على جرائمه وساديته، حتى وإن كانت النتائج خراباً في ديارنا، ودماراً في أوطاننا، ونكبات تتوارثها الأجيال.

أمريكا التي نعرفها هي راعية الهيمنة، ومهندسة الخراب، وشريكة الاحتلال في كل جريمة ارتكبت على أرضنا، فتاريخها معنا سلسلة طويلة من الخداع، فهي ليست حليفاً، بل خصم يتقن التخفي، ويتحدث بلغة القانون، ويمارس قانون الغاب.

لم تخن أمريكا خطابها معنا فحسب، بل خانت قيمها، فمن النكبة إلى النكسة، من احتلال بيروت إلى تدمير بغداد، من حصار غزة إلى تفكيك اليمن وسوريا وليبيا…، كانت أمريكا إما تدير اللعبة أو تمد اللاعبين بأدوات القتل، أو تغطيهم سياسياً في المحافل الدولية، ومنذ ذلك اليوم، لا شيء تغير، سوى الأقنعة.

وما يحدث اليوم في غزة هو ذروة هذا النفاق الأميركي، فبدلاً من الضغط الحقيقي لوقف المجازر، لجأت واشنطن إلى حيلة سياسية مكشوفة، وها هي تفعلها مجدداً، عبر ما بات يُعرف اليوم بـ “مقترح ويتكوف” لوقف “إطلاق النار” في غزة، والذي هو في الحقيقة لا يعدو كونه مقترح المستشار الأقرب لنتنياهو “رون ديرمر”، فقدمت مقترحين مختلفين لوقف العدوان، نسخة لحماس وأخرى لتل أبيب، وكل طرف، إما وافق، أو أبدى استعداده للموافقة عليه على الأقل، حتى لو كان ذلك مع بعض التحفظات، لنكتشف لاحقاً أن هناك اختلافاً كبيراً بينهما، وأنها مليئة بالفخاخ، وأن أمريكا لم تكن تسعى لحل، بل كانت تشتري وقتاً إضافياً لماكينة القتل لكي تكمل مهمتها، فهذه ليست وساطة، بل هو انحياز موصوف بكل المعايير.

الأخطر من ذلك كله، أنها تستخدم هذه المبادرة المفخخة كذريعة لتجميد التحركات الدولية الرامية إلى وقف العدوان أو محاسبة الاحتلال، فنجدها تُمارس الضغوط على الأوروبيين لفرملة العقوبات المحتملة أو حتى الإدانات، بحجة أن أي تصعيد حالي – حتى لو كان دبلوماسياً – قد يُعيق “جهود وقف إطلاق النار”، لكن الحقيقة هي أن أمريكا لا تريد وقف العدوان، بل تريد إنهاء المهمة أولاً، ومن ثم منح الاحتلال الغطاء السياسي لخروج “مشرّف”، وتجريد أي تحرك دولي من أدواته الفاعلة عبر تعليق الأمل على مبادرة فارغة المحتوى.

فأمريكا التي تطلب “مواقف متزنة”، هي – في الواقع – تريد مواقف تساوي بين دولة نووية تحتل وتقتل شعباً لاأكثر من ستمئة يوم، وبين شعب أعزل يذبح ويُجوّع ويُطرد من أرضه، وهي بذلك تريد المساواة بين السيف والدم، وهذا هو أبسط تعريف للوقاحة السياسية، وهو أن تُلبس الجريمة ثوب الحياد، وتقدم المجرم شريكاً في الحل.

وللحق نقول، هذه ليست أخطاء تقدير أو إخفاقات دبلوماسية، هذا نهج ثابت في السياسة الأمريكية، قتل الوقت حين يُقتل الناس، شراء صمت العالم حين ترتكب المجازر، ومكافأة المستعمر على كل جريمته، فهذه أمريكا التي نعرفها، والتي آن لنا أن نكف عن التعامل معها كوسيط أو كراع لسلام مفقود، فإن كل رهان على أمريكا هو رهان على الوهم، فمن يريد الحرية لا يطلبها من سجّانه، ومن يسعى للعدالة لا ينتظرها من شريك القاتل، فأمريكا لم تكن يوماً جزءاً من الحل، بل هي أصل المشكلة، ومحركها، وضامن استمراريتها، وبالتالي، لقد حانت اللحظة لفك الارتباط النفسي والسياسي مع هذا الحليف المزيّف، فأمريكا التي نعرفها، هي أمريكا التي تقتلنا ببطء، باسم القانون، وبابتسامة دبلوماسية!