من بين أهمّ التساؤلات التي طرحها علماءُ السياسة والمفكّرين حول العالم، لا سِيّما في العقود الأخيرة، هو ذاك المُتعلّق بمن يصنع اتجاهات العالم، هل المواقف أم الأشخاص؟
يَقْطَع بطريرك السياسة الأميركيّة هنري كيسنجر بأنّ الأشخاص بلا شكٍّ هم مَن يقودون العالم بأفكارهم التي تصنع المواقف وتحدّد اتّجاهات الأحداث، ويدلّل على نظرته هذه بما جرى في الاتحّاد السوفيتيّ بنوعٍ خاصٍّ في ثمانينات القرن المنصرم، حين وصل إلى مكتب قيادة الحزب الشيوعيّ، طغمة من القادة كبار السنّ، بدءًا من بريجنيف، ثم أندروبوف، وصولاً إلى تشيرننكو، قبل أن يعرف ميخائيل غورباتشوف طريقه إلى الحكم، ويتبنّى سياسة البريسترويكا والجلاسنوست، أي المكاشفة والمصارحة، ثم إعادة البناء.
كانت تلك ولا شكَّ مرحلة الأشخاص الذين قادوا الشيوعية إلى مثواها الأخير، ذلك لأنهم عجزوا عن قراءة الأزمنة، وفهم مجريات التاريخ، وبلغت بهم مرحلة الانسداد التاريخيّ، حدَّ الوهم بأن النظريّة الشيوعية خالدة وسوف تعيش لألف عام، وما هي إلّا سبعين سنة وكانت النهاية؟
اليوم يختلف المشهد وينتقل من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، حيث الولايات المتّحدة الأميركيّة وحتّى الساعة مالئة الدنيا وشاغلة الناس، والقطب المنفرد ولو إلى أجل قريب بمقدرات العالم والسؤال: هل الولايات المتّحدة الأميركيّة، وفي الأوقات الراهنة تحديدًا، في حاجة إلى قادة جُدُد، وإلى عقولٍ مفكّرة بمنظورٍ عصرانيّ مغاير لمرحلتين تاريخيّتين، مرحلة الحرب الباردة، ثم القطب المنفرد بعد سقوط حلف وارسو؟
الشاهد أنّ الناظر إلى الداخل الأميركيّ اليوم، تكاد الدهشة أن تَلُفَّه من جرَّاء وقائع الأحداث وطبائع الأمور هناك، لا سِيَّما بعد أن تحوَّلَ العالم السياسي، من دائرة التنافس السياسي التقليديّ المعروف والموصوف، إلى حَيِّز الصراعات والصدامات المحفوفة بالكراهية العِرْقِيّة، والتحَزُّب غير الإيجابيّ القائم على التهويل تارةً والتخوين تارةً، ولعلَّ أقرب مشهد في هذا السياق المخيف، هو توجيه عدد من أعضاء الكونجرس من الديمقراطيّين، ما يشبه الأوامر إلى القوات المسلّحة الأميركية، وقوّات الحرس الوطنيّ، بأن تتمَرَّدَ على قرارات الرئيس ترمب القاضية بالانتشار في المدن، وهو الأسلوب الذي لجأ إليه سيّدُ البيت الأبيض في طريقه، كما يتصوّر، لمكافحة العنف والجريمة، ومحاولة انتشال الولايات المتحدة من أزمات الصراعات والفوضى والانفلات.
هل تصرّف أعضاء الكونجرس هؤلاء، يمكن أن يصُبَّ في خانة الخيانة العظمى، ويحقّ للرئيس أن يقوم بسجنهم، إن لم يكن إعدامهم كما تقتضي قوانين البلاد، لا سيما في حالات الارتباك والخروج عن القانون؟
من هنا ينفلش الحديث عن حاجة الولايات المتحدة إلى مشروع مانهاتن جديد لكنه من النوع الفكريّ وليس النوويّ.
تحفظ أضابير التاريخ، قصة مشروع مانهاتن البحثيّ الذي جرى العمل عليه في أثناء الحرب العالمية الثانية، بدءًا من العام 1942، وقاد البلاد إلى حيازة أول قنبلة نوويّة في التاريخ.
غير أنّه من الواضح أنّ هناك حاجةً إلى مشروع مانهاتن لرأس المال البشريّ النخبويّ، بأكثر من الحاجة إلى أنواع متطوّرة من القنابل النوويّة، والعهدة هنا على البروفيسور “ريان ب. ويليامز”، رئيس معهد كليرمونت، وناشر مجلّة العقل الأميركيّ، والذي طرح القضيّة للنقاش خلال حلقةٍ نقاشيّةٍ في مؤتمر المحافظية الوطنية لعام 2025 بالمعهد عينه.
التساؤل المثير الذي طرحه ويليامز يبحث في العلاقة بين مستقبل الحضارة الغربيّة، والتصاعُد المثير إلى حَدِّ المخيف لعالم الذكاء الاصطناعيّ.
لا يستقيم التركيز على التقدّم التكنولوجيّ في تقدير الكثير من أصحاب العقول الراجحة، من غير رأس مالٍ بشريٍّ نخبويٍّ حقيقيٍّ، والاختلال يقود إلى وضع الحضارة الغربيّة في مَهَبّ الريح.
لكنَّ الخوفَ مِمَّن؟ أهو من الصين السابقة أحيانًا في مسارات ومدارات الذكاءات غير البشريّة، وربّما من روسيا القادرة على تسخير قدراتها العلميّة الفيزيائيّة تحديدًا لمقارعة أميركا عسكريًّا؟
غالب الظنِّ أنَّ الخوف الأميركيَّ الأكبر ينطلق من داخل أميركا عينها، حيث حقبة ضبابيَّة، شِقاقِيَّة فِراقيّة، ما بين أحزابٍ متشارعة، وقضايا ما بعد الحداثة والأنسنة المتنازعة.
قراءة رئيس معهد كليرمونت، والتي تميل إلى نوع من المحافظيّة الداخليّة، غير المنشغلة بالتبشير بالديمقراطيّة وغزو بلدان العالم، كما في حقبة محافظي بوش الابن أوائل الألفيّة الثالثة، تقطع بأنّ هناك حاجةً لنخبةٍ أميركيّة تمزج بين العقل والنقل، ولها دالة على الآداب والعلوم والفنون، كما تبرع في فهم منطلقات السياسة، بهدف رفع مستوى الحكومة على الصعيدَيْن الوطنيّ والولايتيّ.
والشاهد أنّ أزمة التعليم الأميركيّ، من الروضة وحتى ما بعد الثانويّ، باتت تنعكس على فرق النخبة الأميركيّة المضمحلة إلّا ما رحم ربُّك.
عبر صفحات مجلّة أتلانتك، نرى جدلًا حول العمليّة التعليميّة في جامعة هارفارد، ذروة مؤسّسات الاعتماد المرموقة، والملاحَظ هناك أنّ التقييمات المرتفعة للخرّيجين، لا تعكس مستويات متقدّمة من الفهم، ذلك أن الأتمتة والميكنة والشات جي بي تي، عطفًا على غيرها من أدوات الذكاء الصناعيّ، جعلتْ الطلاب يضربون صفحًا عن قراءة الكتب، ويتوقّفون عن التفاعل مع الأفكار النقديّة الخلّاقة، ما يغلق أبواب الروح الأميركيّة على مصادر المعرفة الحقيقيّة.
في يناير الماضي، أجرى مركز بيو استطلاعًا للرأي بين المراهقين الأميركيّين، الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و 17 عامًا، فوجد أن عدد مستخدمي تشات جي بي تي قد تضاعف منذ 2023 من 13% إلى 26%.
الكارثة لا الحادثة تتمثّل في أنّ أدوات الذكاء الاصطناعيّ تستنزف في المرحلة الثانويّة تركيز الطلاب، وتضعف عقولهم، ثم يلتحق أفضلهم بمؤسّسات التعليم العالي المرموقة حيث تقلّ فرصُهم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى للاستفادة من أهم سنوات حياتهم في بناء رأس المال الفكريّ وصقل عقولهم وأرواحهم.
تبدو أميركا اليوم في صراعٍ داخليٍّ مخيف، بين الروح والمادّة، بين أنصار الدونكشتويّة التكنولوجيّة إن جاز التعبير، والتي يؤمن أصحابها بأن الذكاءات هذه، قادرة على محاربة السرطان، وإطالة عمر الإنسان واستكشاف المريخ، وزراعة الصحارى، وقد يكون هذا في حدِّ ذاته صحيحًا.
لكنَّ الإشكاليّةَ الحقيقيَّةَ تتمثَّل في أن تكون هذه هي السبب الرئيس وراء تفريغ الروح من إنسانِيَّتها، والعقل من ذكائه الطبيعيّ، والمجتمع من حلمه الذي جعل منه مقصدًا للشرق والغرب على حدٍّ سواءٍ.
السؤال هنا: “هل من معادلةٍ توفيقيّة، لا تلفيقيّة، قادرة على مسايرة تطورات التقنيّة، مع الحفاظ على مفاهيم الحرية وصيانة الثوابت الليبراليّة الدستوريّة وإرث الآباء المؤسِّسين؟
الجواب مهمٌّ للغاية، ذلك أنّه قادرٌ على تحديد وتجهيز قيادات أميركا ما بعد المائتين وخمسين عامًا من نشوئها وارتقائها، وما إذا كان التكنوفاشيزم هم من سيديرون عقارب ساعتها، أم رجالات الدولة والقادة الذين تشكَّلَتْ عقولُهم وأرواحهم في سنوات التكوين من خلال التفكير العميق على الأسئلة الوجوديّة القديمة، لا سِيَّما المتعلِّقة بالعدالة، الخير العام، الحقوق الطبيعيّة، الازدهار البشريّ، الفلسفة واللاهوت.
يبدو التفوّقُ التقنيّ المنعزل عن الضمانات الأخلاقيّة والسياسية والدستوريّة، معضلةً مخيفة لأميركا اليوم، والرهان على السعي الجامح للتفوُّق التكنولوجيّ مع إهمال ما عداه من المرجَّح أن يؤدِّيَ إلى تدمير الذات.
هل الولايات المتّحدة الأميركيّة فحسب التي تبدو في حاجةٍ ماسّة إلى تطوير مشورع مانهاتن لرأس المال الفكريّ؟
بالقطع الأمر يتجاوز الحضارة الغربيّة إلى الشرقيّة، بل وعموم الإنسانية، ما بين الفُرَص والتحَدِّيات.







