التباعد والانفصال الأميركي عن الصين تجاريًا مهمة مستحلية إلى حد كبير، والمؤشرات تقول إن أميركا لن تكون قادرة على حرب تجارية ضد الصين التي اكتشف العالم أنها تنتشر تجاريًا في العالم بطريقة غير متوقعة، لقد استفادت الصين من فكرة العزلة التي طرحتها أميركا في بداية هذا القرن ومحاولتها تقليل اعتمادها على العالم اقتصاديًا..
عبر التاريخ تتشكل الدول القوية وفق أسس متقاربة الى حد كبير، فالأسس التي جعلت من أميركا أقوى وأغنى دولة في العالم خلال القرن الماضي هي قوتها العسكرية وتجارتها الدولية وهذه الأسس متوفرة في كل الدول التي سادت العالم وخاصة خلال الخمسة قرون الماضية، ولكن الاستثناء الذي ميز القوة الأميركية، بحسب الكثير من الدراسات، أنها تبنت استراتيجية مختلفة عن سابقها من الحضارات، حيث كانت العولمة اكتشافا ساهم في خضوع العالم للتأثيرات الأميركية، ولكي تحقق أميركا هذا التفوق بنت منظومتها العسكرية من خلال قواعد وقطع بحرية تجوب العالم لضمان الأمن والاستقرار.
فلسفة أميركا ما بعد الحرب العالمية الثانية قامت على فكرة الاحتواء الاستراتيجي، فكانت الوسيلة الوحيدة هي السيطرة والنفوذ الدولي على الجميع، الأعداء والحلفاء، حيث نجحت أميركا في الإثبات للعالم أنها الفاعل الوحيد عالمياً والقادر على تغيير المسارات أو بناء الاتجاهات اعتمادا على نفوذها الذي تشكل وفق ثلاثة أركان مهمة (القوة والتجارة والعولمة)، هذه الأركان هي من خلق الشبكة الأميركية المنتشرة عبر العالم والتي بنت هذا النفوذ الكبير، فكان التمدد أحد أهم صفاته حيث استجابت القوة والنفوذ الأميركي إلى التمدد اللامنتهي وأصبحت تتدخل في صغائر القضايا الدولية كما في الكبير منها.
ومع دخول العالم إلى القرن الحادي والعشرين أصبح الأمر في أميركا مختلفا فالتوسع في النفوذ لم يعد يحقق النتائج المطلوبة وأتت إلى المقدمة معادلة التكلفة في مقابل الفائدة، لقد أدركت أميركا في هذا القرن وبطريقة معينة أن مقدار تكلفة النفوذ تاريخيا يصعب أن تطبق عليه معادلات تجارية، فالنفوذ بمفهومة الاستراتيجي تكلفته لا يمكن احتسابها بطريقة تجارية، لأن أرباح النفوذ السياسي هي التأثير وليس المال، ولعل السؤال هنا يتناول لماذا أصبحت أميركا تفكر بهذه الطريقة؟، من وجهة نظري الخاصة فإن أميركا تدخل اليوم مرحلة التشبع من كل شيء بعد أن استهلكت مرحلة الحاجة إلى كل شيء خلال تاريخها الطويل.
عندما أطلق ترمب مقولته الشهيرة التي ورثها من رؤساء سابقين والتي تدور حول جعل أميركا عظيمة مرة أخرى، كان السؤال يدور حول المشكلة الأساسية التي أبعدت أميركا عن العظمة، ما يشهده عهد الرئيس ترمب يثير الأسئلة حول الكيفية التي يتم فيها تعريف النفوذ العالمي، فالحرب التجارية التي يديرها الرئيس ترمب مع الصين وبقية دول العالم بما فيها حلفاء أميركا تعكس واقعا مهما يدور حلول فكرة النفوذ، في الحقيقة أنه لا يمكن التصديق أو حتى التصور أن إجراءات الحرب التجارية التي تجري بين دول العالم وأميركا يمكن أن تكون هي السبب المفقود من أجل إعادة أميركا قوية مرة أخرى.
النظام العالمي اليوم يشبه المنطاد الكبير الذي تحاول أميركا إبقاءه على أرضها رغم أنه مملوء بالهواء ومستعد للطيران، والهواء الذي يملأ هذا المنطاد هو التغير الذي حدث في دول العالم كلها دون استثناء وعلى رأسها الصين التي تتعمد الدخول في سباق المزايدة في التعرفة الجمركية، فكلما رفعت أميركا جاء الرد من بكين ومن أوروبا ومن الشرق الأوسط ليشكل المادة الحقيقية التي سوف تدفع في النهاية منطاد النفوذ العالمي إلى مغادرة الأراضي الأميركية.
التباعد والانفصال الأميركي عن الصين تجاريا مهمة مستحيلة إلى حد كبير، والمؤشرات تقول إن أميركا لن تكون قادرة على حرب تجارية ضد الصين التي اكتشف العالم أنها تنتشر تجاريا في العالم بطريقة غير متوقعة، لقد استفادت الصين من فكرة العزلة التي طرحتها أميركا في بداية هذا القرن ومحاولتها تقليل اعتمادها على العالم اقتصاديا، فالانطواء الأميركي الذي أسس له الرئيس أوباما يتم حصد نتائجة اليوم، لن يكون من السهل على أميركا إعادة ترتيب مساراتها الاقتصادية بعدما أصبحت خسائرها في علاقاتها الدولية مرتهنة بالتعرفات الجمركية التي أصبحت بلا ضبط أو إيقاع اقتصادي يسهل من فهمها.
فالطبيعة المتطورة للنفوذ الذي يشهده العالم في علاقاته الدولية منذ دخول القرن الحادي والعشرين، لم تعد محتكرة في دول بعينها أو في نشاط سياسي أو اقتصادي، ولم تعد القدرة على التأثير على الآخرين متاحة كما كانت في القرن الماضي، وخاصة من قبل أميركا التي كانت لا تتردد في استخدام ذلك النفوذ بالوسيلة التي تناسبها هي فقط، اليوم تحول النفوذ العالمي إلى مادة سائلة يمكنها أن تتسرب إلى أكثر من دولة في العالم، وهذا ما يؤكد ضرورة الإيمان أن العالم يتغير وفقا لنظرية واحدة ليست التجارة أو العولمة إنما هي تحول النفوذ الدولي.
*نقلا عن الرياض