وإنّي – يا شعبي وصاحبي – ليتني أنا هو، ليتني أنا أنتَ، يا زياد، بل ها أنا أنتَ، ها أنا أنتَ، يا ولدي، يا حبيبي، يا حشيشة قلبي، يا ضنايَ، ووجعي، وما زلتُ ولا أزال أنا أنتِ يا ليال، ولو تعرف كم، يا هَلي، يا بُنَي، كم أنتَ أنا يا هَلي، وكم وكم إيّاك أنا والجميع، وأنتَ يا عاصي، وإنّي لناظرةٌ من قعر الليل، من أسفل الهول، من رحم البئر المفتوحة، من بئر الألم، وإنّي لناظرةٌ إلى الحاملة معي رزايا العالم، لناظرةٌ إلى ريما، التي ابنتي، وأختي، والتي قلبي، وهواء رئتيَّ، وسندي، ويدي، وبيتي، وكم هي في الوحشة المميتة، والتي لا يُحتَمَل وزرُها، ولا يُطاق، وإنّي اليومَ، أيّها العالمُ، عُلِّقتُ اليومَ، وحُمِّلتُ صليبًا ليس كالصلبان، وجُعِلتُ على خشبة، وسُقِيتُ مرًّا، وطُعِنتُ، حيث كلُّ طعنةٍ ولا تنوب عن الطعنات كلّها، ولم يبقَ موضعٌ لطعنٍ، ولا مسندُ رأسٍ لتأوّهٍ وآه، وإنّي لأُنشِدُ – وليس بصوتٍ – أنا الأمُّ، فلا شرقيّة ولا غربيّة، وإنّي التراجيديا جسمًا والروح، وإنّي الإغريقيّةُ المفجوعةُ، ولستُ الخرافة، وإنّي الجمعةُ الحزينةُ والعظيمةُ، ونواحي البكاء، ويومَ زُلزِلتِ الأرضُ، ويومَ انحنتِ السمواتُ على الأرض، والكواكبُ والنجومُ ركعتْ، وخرّتِ الشمس، واهتزّتِ الجبالُ من أركانها، والأشجارُ ناحت، وإنّي ليتني لم أكن، وليتني ما وجدتُ، وما حملتُ، وليتني لن، ولا أستفيق من ذهول عتمتي، ومن ذهولي، وإنّي ليتني لا أشهد مصابكَ، يا حشيشة قلبي، يا جبل زيتوني، ولأنّي الحزينةُ الأمُّ، والأمّهاتُ كلهنّ كنايةً ورمزًا وواقعًا، وأعينوني بالعشب الشافي، وأعينوني لأنّ موتي عظيمٌ، عظيمٌ هو موتي، وقيامتي مستحيلةٌ وبعيدةٌ، وكم مستحيلةٌ، وما مَن يعزّيني، ومَن مثلي فلتكن معي، ولتكن فيَّ، لأّنّي الحبلى بالآلام بالأوجاع منذ سفر الدهور منذ سفر التكوين، ولا تحصي شعوبي ودموعي ولا القبور ولا الثكالى، ولأنّي الاستعارةُ والحقيقةُ، ولا رمالُ البحار، ولا اللؤلؤُ المخبؤ، ولا صهيلُ الصحراء، ومن أقاصي عمري إلى أقاصي عمري، وتتقمّصني الجلجلةُ، والموضعُ الذي ينزف منه القلب، وجبلُ الأحزان، والصومُ الكبير، والحكايةُ، والروايةُ، وألفُ شهقةٍ وشهقة، والثيابُ السودُ، وبيروتُ المتوشّحةُ بالشوك المكسور، المضمومةُ على الحربة العالقة بالفؤاد، والقدسُ العتيقةُ، وبيت لحم، ونواحي الجليل، وصيدا، وصور، وقانا، وطرابلس، وعمّان، ودمشق، وتدمر، وعجلون، وبردى، والعاصي، وبغداد، وسهول نينوى، وبابل، والنهرين، والموصل، والبصرة، والنجف، والقاهرة، والإسكندرية، وصعيد مصر، وتونس، وقرطاجة، وباريس، والحرّيّةُ المضرّجة، وأعوادُ المشانق، وقوافلُ الجوع والجوعى والموتى والقتلى والشهداء، وغزّة، والإسراء، وموطئُ النوم الأبديّ، والحائطُ الحرام، والأرضُ الحرام، ولا تسعفني صلاةٌ، ولا تشدّ حيلي أعجوبةٌ، وإنّي مقهورةٌ، ومائتةٌ، ومقهورةٌ، ومقهورةٌ، والموتُ في الحياة أشدُّ، وأدهى، يا شعبي وصاحبي، وأثخنُ من موت الموت، وإنّي لمقهورةٌ، يا شعبي، وإلى أبد الآبدين، وأنا الأمُّ الحزينة، وليس ما يعزّيها.
