المجتمع ضد الدولة:
لا يقتصر علم الأنثروبولوجيا على دراسة الجسد والعادات والطقوس والأساطير، بل يتوغّل في تحليل البنى الذهنية وأنماط العيش التي تمنح الجماعة الإنسانية تماسكها أو تجرّها نحو التفكك. ومن بين فروعه، تبرز الأنثروبولوجيا السياسية بوصفها الحقل الذي يفتّش في أصول السلطة قبل أن تتجسّد في الدولة الحديثة، محاولًا الكشف عن أشكال التنظيم الاجتماعي التي استطاعت أن تدير شؤونها من دون جهاز قسري مركزي.
في هذا الأفق، يبرز اسم عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي بيير كلاستر (1934 – 1977م)، صاحب الأطروحة الشهيرة: مجتمع بلا دولة أو مجتمع ضد الدولة. من خلال بحوثه الميدانية بين شعب الغواياكي في باراغواي، سعى كلاستر إلى تفكيك المسلّمة الأوروبية الراسخة منذ هوبز وحتى فيبر، التي تقول إن المجتمع لا ينتظم إلا بوجود سلطة قسرية. وأظهر أن هناك مجتمعات لم تكتفِ بالعيش من دون دولة، بل طوّرت آليات ثقافية وسياسية واعية لمنع نشوء الدولة أصلًا، إدراكًا منها أن قيام الدولة قد يكون بداية الانقسام الداخلي وبروز التراتبية والقهر.
بهذا قلب كلاستر التصنيف التقليدي الذي اعتبر تلك المجتمعات “ما قبل” التاريخ السياسي، ليصفها بأنها “ضد الدولة”. فغياب الدولة هنا ليس قصورًا أو عجزًا، بل خيار حضاريًّا واعيًا، يضمن بقاء الجماعة متماسكة بلا استبداد أو احتكار للقرار. ومن هنا فإن “السياسة” في هذه المجتمعات لا تعني الحكم المركزي، بل إدارة العلاقات والقوى بطرق أفقية لا تشبه بيروقراطيات الدولة أو أجهزتها القمعية.
_ تتقاطع أطروحة كلاستر مع مدارس فكرية كبرى:
الماركسية التي رأت الدولة أداة للطبقة المهيمنة، معتبرة المجتمعات اللا دولانية مرحلة بدائية تُتجاوز في مسار التاريخ نحو الشيوعية.
وافكر الفوكوي الذي أعاد تعريف السلطة بوصفها شبكة علاقات موزّعة، ما يتيح فهم آليات السلطة الأفقية التي تمارسها تلك المجتمعات بلا احتكار للعنف.
لقد أدركت المجتمعات “ضد الدولة” أن السلطة إذا انفصلت عن النسيج الاجتماعي تحوّلت إلى خطر على الجماعة، وأن هذا الانفصال هو في ذاته انشقاق عن الثقافة. ومن هنا تتجلّى وظيفة الأنثروبولوجيا السياسية: ليست مجرد وصف لتاريخ الدولة، بل ممارسة نقدية تعيد طرح السؤال الفلسفي الأعمق:
هل الدولة قدرٌ محتوم للإنسان، أم أن الاجتماع البشري قادر على ابتكار بدائل سياسية أخرى لا تقل فعالية، لكنها تحرّره من القهر البنيوي للدولة؟
وفي العالم العربي، يكتسب هذا السؤال أهمية مضاعفة. فالكثير من الدول العربية، رغم وجودها المؤسسي، تعاني أزمات شرعية وانقسامات تجعلها أقرب – بنيويًا – إلى مجتمعات “ضد الدولة” منها إلى دول وطنية حديثة مكتملة. وهنا يصبح درس كلاستر وغيره من رواد الأنثروبولوجيا السياسية أداةً لفهم جذور الأزمة، وربما لاستشراف سبل الخروج منها، بعيدًا عن مسلّمات الفكر السياسي الكلاسيكي الذي يربط بقاء المجتمع بوجود الدولة بشكلها القائم.