أوروغواي تغلق مكتب الابتكار في القدس: دلالات الموقف من فلسطين وإسرائيل

د. راسم بشارات - مختص في الشأن اللاتيني

مقدمة
تتمتع أوروغواي، الدولة الصغيرة في أميركا اللاتينية، بمكانة خاصة في السياسة الخارجية الإقليمية، إذ غالبًا ما تتجاوز مواقفها حجمها الجغرافي والديمغرافي لتعكس ثقلًا أخلاقيًا ودبلوماسيًا ينسجم مع تقاليدها الديمقراطية العريقة. فمنذ اعترافها بدولة فلسطين في مارس/آذار 2011، بعد أشهر من اعتراف البرازيل والأرجنتين، تبنّت أوروغواي نهجًا يقوم على دعم الشرعية الدولية وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. وفي الوقت ذاته، حافظت على علاقات طويلة الأمد مع إسرائيل في مجالات التجارة والأمن والبحث العلمي، وهو ما أضفى على سياستها الخارجية طابعًا مزدوجًا بين الانفتاح على فلسطين من ناحية، والتعاون مع إسرائيل من ناحية أخرى.

غير أنّ الحرب الإسرائيلية على غزة (٢٠٢٣ – ٢٠٢٥) شكّلت نقطة تحول مهمة في هذا التوازن. فمع تفاقم الكارثة الإنسانية وارتفاع أعداد الضحايا المدنيين، صعّدت حكومة الرئيس ياماندو أورسي (الجبهة الواسعة – يسار معتدل) من خطابها ضد إسرائيل، وذهبت أبعد من البيانات الدبلوماسية إلى اتخاذ إجراءات عملية، كان أبرزها قرار إغلاق مكتب الابتكار العلمي الأوروغوياني في الجامعة العبرية بالقدس وتعليق اتفاقية التعاون معها.

 

من الاعتراف إلى التضامن
أورغواي لم تكن السباقة في أميركا اللاتينية إلى الاعتراف بفلسطين، لكنها كانت من بين الدول القليلة التي منحت اعترافها بعدًا قانونيًا ودبلوماسيًا كاملًا. هذا الاعتراف عام 2011 جسّد التزامها بمبدأ تقرير المصير، وعبّر عن اصطفافها ضمن موجة التضامن اللاتينية التي قادتها حكومات يسارية كالبرازيل والأرجنتين وفنزويلا في تلك الفترة.

ومع اندلاع الحرب على غزة، أصدرت وزارة الخارجية الأوروغويانية سلسلة بيانات في ٢٠٢٤ ٢٠٢٥ وصفت الوضع في القطاع بأنه “مجزرة”، وأكدت تضامنها مع الشعب الفلسطيني، مطالبة بوقف إطلاق النار الفوري وضمان إدخال المساعدات الإنسانية عبر الأمم المتحدة، ورفض أي محاولة لفرض تغييرات ديموغرافية أو جغرافية على الأرض الفلسطينية المحتلة. وفي الوقت ذاته، رحبت أوروغواي بمبادرات الوساطة الدولية مثل هدنة الدوحة (يناير ٢٠٢٥)، معتبرة أنها خطوة في الاتجاه الصحيح، مع تأكيدها على أن الحل الجذري للصراع يمر عبر إنهاء الاحتلال وتطبيق حل الدولتين على أساس حدود ١٩٦٧.

إغلاق مكتب الابتكار العلمي: القرار والدلالات
جاء قرار حكومة أورسي في ١٥ آب ٢٠٢٥ بإغلاق مكتب الابتكار العلمي، التابع لوكالة الأبحاث والابتكار الوطنية الاوروغويانية ANII، في الجامعة العبرية بالقدس كإجراء رمزي عميق الدلالة. فالجامعة العبرية ليست مؤسسة أكاديمية محايدة تمامًا، بل ترتبط تاريخيًا بالمؤسسة الإسرائيلية وبخطط البحث التي تخدم أحيانًا الصناعات العسكرية والتكنولوجية المرتبطة بالاحتلال. ومن هنا، فإن تعليق التعاون مع هذه المؤسسة يعكس انتقال أوروغواي من مجرد إصدار بيانات إدانة إلى سياسة عقابية رمزية تستهدف البنية الأكاديمية–العلمية التي تشكّل رافعة أساسية للهيمنة الإسرائيلية.

وبذلك، تكون أوروغواي قد أرسلت إشارة واضحة إلى أنها لا ترى في التعاون العلمي غطاءً لتجاهل الانتهاكات الإنسانية، بل تعتبره جزءًا من شبكة العلاقات التي يجب مراجعتها عندما تتحول إسرائيل إلى قوة مدمّرة للمدنيين في غزة.

ومن المهم الإشارة إلى أن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين أوروغواي وإسرائيل لم تُقطع بالكامل. إذ ترتبط الدولتان بعلاقات اقتصادية منظمة منذ توقيع اتفاقية التجارة الحرة عام 2007 بين إسرائيل وتجمع ميركوسور.

وبموجب هذه الاتفاقية بلغ حجم صادرات أوروغواي إلى إسرائيل نحو ٦١ مليون دولار عام ٢٠٢٣ وتشمل في الغالب اللحوم ومنتجات زراعية أخرى، وهو ما يعكس دور القطاع الزراعي الأوروغوياني كمصدر رئيسي للتبادل. في المقابل، استوردت أوروغواي من إسرائيل بما يقارب ٢٨ مليون دولار عام ٢٠٢٤ تضمنت الأسمدة والمواد الكيماوية والأجهزة الطبية إلى جانب بعض التقنيات الإلكترونية.

أما في المجال العسكري والأمني، فقد شهدت العلاقات بين البلدين محطات متقطعة لكنها لافتة. ففي تسعينيات القرن الماضي، اشترت أوروغواي دبابات T-55 مطوّرة من إسرائيل، بينما سبق لها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي أن استوردت خوذات قتالية من طراز OR-201 التي كانت مستخدمة لدى الجيش الإسرائيلي آنذاك. هذه الصفقات التاريخية تعكس اعتمادًا جزئيًا على الصناعات العسكرية الإسرائيلية، وإن كان على نطاق محدود.

إلى جانب ذلك، برز شكل آخر من التعاون في المجال الأمني المدني، حيث جرى إنشاء مركز أمني في أوروغواي يعتمد على تكنولوجيا إسرائيلية متطورة، وهو ما يشير إلى أن الشراكة لم تقتصر على التسلح التقليدي، بل امتدت إلى المجال التقني و الأمني الوقائي. ومع ذلك، يبقى حجم التعاون العسكري والأمني بين البلدين محدودًا مقارنة بما تقيمه إسرائيل مع دول أكبر في المنطقة مثل كولومبيا أو البرازيل، ما يجعل من هذا التعاون عنصرًا مكملًا للعلاقات الثنائية، لكنه ليس محوريًا.

دور البرازيل والبعد الإقليمي
لا يمكن قراءة الموقف الأوروغوياني بمعزل عن السياق اللاتيني الأوسع. فالبرازيل بقيادة الرئيس لويس ايناسيو لولا دا سيلفا لعبت دورًا محوريًا في دعم فلسطين في المحافل الدولية، ودفعت باتجاه صياغة خطاب إقليمي نقدي لإسرائيل. ومن هنا، فإن أوروغواي، بحكم قربها السياسي والثقافي من البرازيل واندماجها في إطار ميركوسور، تتأثر بهذا السياق، وهو ما يشجّعها على اتخاذ خطوات أكثر جرأة في دعم الحقوق الفلسطينية.

 

خاتمة وتوصيات

يمثل قرار إغلاق مكتب الابتكار العلمي في القدس لحظة فارقة في مسار السياسة الأوروغويانية تجاه فلسطين وإسرائيل. فهذا القرار، وإن بدا رمزيًا في ظاهره، يعكس قدرة دولة صغيرة مثل أوروغواي على توظيف أدواتها الدبلوماسية والأكاديمية للتعبير عن رفضها لانتهاكات القانون الدولي، حتى لو كان ذلك على حساب جزء من علاقاتها التقليدية مع إسرائيل. وهو بذلك يضع السياسة الخارجية الأوروغويانية في موقع مغاير، أقرب إلى الانحياز الواضح لقيم العدالة وحقوق الإنسان، بعيدًا عن منطق التوازن الشكلي الذي حكم مواقف سابقة.

غير أن هذه الخطوة لا يمكن أن تبقى معزولة عن محيطها الإقليمي والدولي. فأهمية الموقف الأوروغوياني تزداد إذا ما جرى توسيعه عبر تعزيز التنسيق مع البرازيل ودول “ميركوسور”، بما يسمح بخلق جبهة لاتينية ضاغطة من أجل وقف العدوان الإسرائيلي ورفع الحصار المفروض على غزة. وفي الإطار نفسه، تمتلك أوروغواي فرصة للعب دور فاعل في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، من خلال الدفع نحو إجراءات أكثر صرامة، مثل فرض عقوبات على إسرائيل بسبب انتهاكاتها المتكررة لحقوق الإنسان وارتكابها ما يرقى إلى جرائم حرب.

كما يمكن لهذا التحول أن يفتح الباب أمام بناء بدائل إيجابية في مجال التعاون الأكاديمي والعلمي، وذلك عبر تعزيز الشراكات مع الجامعات الفلسطينية والعربية، بدلًا من الاستمرار في علاقات مشوهة مع مؤسسات إسرائيلية ترتبط مباشرة بمشاريع الاحتلال والاستيطان. إن تبني هذا التوجه من شأنه أن يحافظ على حضور أوروغواي في المجال العلمي الدولي، لكنه يربطه بقيم التضامن والعدالة بدلًا من التواطؤ غير المباشر مع منظومة القمع.

وفي المحصلة، فإن مغزى الموقف الأوروغوياني يتجاوز القرار في حد ذاته ليضع الأساس لبناء خطاب لاتيني مشترك يرى في القضية الفلسطينية قضية تحرر وطني وليست مجرد نزاع جيوسياسي. عندها فقط يمكن لأوروغواي أن تتحول من مجرد فاعل صغير في السياسة الدولية إلى صوت أخلاقي له وزنه، يعبّر عن الضمير الإنساني في مواجهة واحدة من أكثر المظالم التاريخية إلحاحًا في عصرنا.