في زمنٍ تتهاوى فيه السياسة إلى درك التحريض، ويتحوّل المنبر العام إلى أداة إقصاءٍ وكراهية، يندر أن ينهض صوتٌ لا ليصرخ، بل ليُدين؛ لا ليُجامل، بل ليُسمّي الأشياء بأسمائها. في قلب هذا المشهد الإسرائيلي القاتم، يقف أيمن عودة بوصفه قامة وطنية فلسطينية استثنائية، وصوتًا أخلاقيًا صلبًا، يرفض أن يكون الفلسطيني شاهدًا صامتًا على قهره، أو رقمًا زائدًا في معادلةٍ صُمّمت أصلًا لإلغائه.
النائب أيمن عودة ليس مجرد صوتٍ برلماني، بل ضمير وطني حيّ، يجسّد ثبات الفلسطيني في أرضه، ووضوح الموقف في زمن الالتباس، والشجاعة الأخلاقية في مواجهة الظلم. في مواقفه تتلاقى الحكمة مع الجرأة، ويعلو الخطاب الإنساني فوق كل محاولات الإقصاء والتشويه، دون أن يفقد جذريته أو وضوح انحيازه للحق.
أيمن عودة ليس نائبًا عابرًا في مؤسسةٍ تشريعية، بل حالة سياسية وفكرية متكاملة، تشكّلت في رحم المعاناة الفلسطينية، وتغذّت من وعيٍ يدرك أن الصراع ليس على تفاصيل إجرائية، بل على جوهر الرواية والحق والوجود. دخل الكنيست لا بوهم الاندماج، ولا برغبة التزيين، بل بقناعة راسخة بأن اختراق جدار الصمت، حتى من داخل أكثر الساحات عداءً، هو فعل مقاومة بحدّ ذاته.
في فضاءٍ سياسيٍّ إسرائيليٍّ يزداد تطرفًا وعنصرية، حيث تُشرعن الكراهية وتُكافأ، شكّل حضور أيمن عودة كسرًا للسردية السائدة. لم يتعلّم لغة الالتفاف، ولم يتقن فنّ المواربة، بل قدّم خطابًا واضحًا، حادًّا في مضمونه، رصينًا في لغته؛ يسمّي الاحتلال احتلالًا، والعنصرية عنصرية، والإبادة إبادة، دون خوفٍ من العزل أو التحريض أو التشويه.
ما يميّز عودة ليس فقط شجاعته في الموقف، بل اتساقه النادر بين القول والفعل. لم تتحوّل الوطنية في خطابه إلى شعارٍ للاستهلاك، ولا إلى ورقة تفاوض، بل إلى ممارسة يومية داخل مؤسسة تحاول باستمرار تفريغ الفلسطيني من هويته، وتحويله إلى “مواطنٍ مشروط” بلا ذاكرة ولا حق. في مواجهة ذلك، أعاد أيمن عودة الاعتبار للهوية الفلسطينية بوصفها إطارًا سياسيًا وأخلاقيًا للنضال، لا عبئًا ينبغي التخفف منه.
خطابه هو امتداد طبيعي لمدرسة النضال الوطني التي أنجبت قامات خالدة من الداخل الفلسطيني مثل توفيق زياد و**محمود درويش** و**سميح القاسم، ومعهم إميل حبيبي وحنا أبو حنا** و**سلمان ناطور**؛ مدرسةٍ رأت في الكلمة فعل مقاومة، وفي السياسة التزامًا أخلاقيًا، وفي الانتماء لفلسطين بوصلةً لا تحيد.
لم يكن ثمن هذا الموقف بسيطًا. فقد تعرّض عودة لحملات تحريض ممنهجة، ومحاولات نزع شرعية، وملاحقات سياسية وإعلامية، فقط لأنه أصرّ على أن يكون فلسطينيًا كاملًا في مكانٍ يُراد للفلسطيني فيه أن يكون ناقصًا أو صامتًا. غير أن الاستهداف، في السياسة كما في التاريخ، لا يكون إلا اعترافًا بالقوة والتأثير؛ فالسلطات لا تخشى الأصوات الهامشية، بل تخشى من يحوّل الحقيقة إلى موقف دائم.
في مواقفه من غزة، والقدس، والنقب، والأسرى، لم يقف أيمن عودة وحيدًا، بل وقف ضمن كتلة أخلاقية فلسطينية داخل الكنيست، ضمّت إخوته وأخواته في الموقف والضمير، وفي مقدّمتهم د. أحمد الطيبي و**عايدة توما**، وإلى جانبهما النائب السابق د. سامي أبو شحادة الذي شكّل جزءًا من هذه التجربة الوطنية في مراحل سابقة. معًا، عبّروا عن موقف أخلاقي واضح: الانحياز للضحية، تسمية الجريمة باسمها، ورفض “التوازن الزائف” الذي يساوي بين الجلاد والضحية. وهنا تتجلّى القامة الوطنية، حين تعلو الأخلاق على المنصب، ويصبح الموقف أثقل من الحسابات.
ومن هذا الموقع، تبرز مسؤولية جماعية لا تقل أهمية عن الموقف الفردي. إن عرب فلسطين في الداخل اليوم بأمسّ الحاجة إلى تشكيل قائمة وحدة حقيقية، لا تقوم على الحسابات الضيقة أو الزعامات المتناحرة، بل على برنامج وطني واضح يحمي الناس وحقوقهم وكرامتهم. وكل من يعمل على إفشال هذه الوحدة، أو تفتيتها، أو استثمار الانقسام لمصالح شخصية، يجب أن يُعرّى سياسيًا وأخلاقيًا، لأن الانقسام في لحظة كهذه ليس خلافًا مشروعًا، بل إضرار مباشر بالقوة الجماعية وخدمة لمنظومة الإقصاء.
ختامًا: أيمن عودة ليس ظاهرة عابرة في المشهد السياسي، بل شهادة حيّة على إمكانية الصمود داخل قلب العاصفة، ودليل على أن السياسة يمكن أن تكون فعل كرامة، وأن الكلمة الصادقة، حين تُقال بثبات، تتحوّل إلى فعل مقاومة. هو قامة وطنية فلسطينية تُقاس بوزن الموقف، لا بطول البقاء في المناصب، وبالقدرة على قول “لا” عاليةً وواضحة، حين يصبح الصمت شراكةً في الظلم.
*ناشط وكاتب عربي فلسطيني عضو الأمانة العامة للشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام/شيكاغو.










