إسرائيل التي تنتظر سيّد البيت الأبيض الجديد

وائل الحجار

السياسي – عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تبدو إسرائيل، المنتشية بفائض القوّة، على الرغم من كل ما في هذه الصورة من إشكاليات وإجرام وأوهام، تحبّذ انتخاب دونالد ترامب لمنصب الرئاسة.

فعودة الرئيس الأسبق المثير للجدل إلى المكتب البيضاوي، مطلب تؤيده غالبية الإسرائيليين وفق ما تظهره استطلاعات الرأي بينهم، التي تعطيه أفضلية بفارق كبير.
وأظهر استطلاع أجرته قناة «12» ونشرت نتائجه الإثنين الماضي، أن نسبة كبيرة من الإسرائيليين (66 في المئة) يفضّلون دونالد ترامب على نائبة الرئيس المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس.
وكشف الاستطلاع، الذي أُجري قبل أسبوع من الانتخابات الأمريكية، أن 17 في المئة فقط من الإسرائيليين يختارون هاريس، بينما لم يكن لـ 17 في المئة آخرين أي تفضيل. ومن بين الناخبين لأحزاب ائتلاف أقصى اليمين الحاكم في إسرائيل، اختار 93 في المئة ترامب، بينما اختار 1 في المئة فقط هاريس.
ووفق ما تؤكده صحيفة «جويش كرونيكل» فإن هذه النتائج تتناقض بشكل شبه كامل مع نتائج استطلاع أجراه «المجلس اليهودي الديمقراطي لأميركا» في 9 أيلول/سبتمبر، بيّن أن 68 في المئة من اليهود الأمريكيين يفضلون هاريس، بينما اختار ربعهم فقط دونالد ترامب.
ويظهر استطلاع المجلس، أن إسرائيل ليست من أولويات اليهود الأمريكيين، حيث تأتي في ترتيب أقل من قضايا مثل الديمقراطية، والإجهاض، والاقتصاد، وتغير المناخ، والأمن القومي، ومعاداة السامية، والهجرة، والرعاية الصحية.
واستطلاعات الرأي، وعلى الرغم من أنها قد لا تعكس بدقّة المزاج العام في الولايات المتحدة، أو تبقى تحت تأثير الجهات التي تنظّمها والمنهجية المستخدمة فيها، إلا أنها مع ذلك مؤشر على موقف شريحة كبيرة من اليهود في الولايات المتحدة التي ترى أن حكومة بنيامين نتنياهو قد تكون مضت بعيدا في حربها على غزة، وتميل أكثر نحو السياسات التي تظهر اعتدالا وتوازنا تجاه الصراع في فلسطين.
واستطلاع آخر أجرته الشهر الماضي CHIP50 لصالح صحيفة «فوروارد» وهي مجموعة أكاديمية من خبراء في استطلاعات الرأي العام، يبيّن أن غالبية من اليهود الأمريكيين يعتقدون بأن هاريس ستتعامل مع الحرب بين إسرائيل و«حماس» بشكل أفضل من ترامب بفارق كبير، 54 في المئة مقابل 36 في المئة، مع أن معظمهم يرى أيضًا أن ترامب أكثر دعمًا للإسرائيليين. فـ65 في المئة يعتقدون بأن ترامب يدعم الإسرائيليين فقط، أو في الغالب على حساب الفلسطينيين، بينما يعتقد 42 في المئة بأن هاريس تقدّم «دعماً متساوياً لكليهما».
ويشكل اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مجتمع يهودي في العالم (7.5 مليون عام 2023) أي ما يناهز 48 في المئة من يهود العالم، بما يجعل الولايات المتحدة متقدمة على إسرائيل التي يعيش فيها حالياً ما يقارب 46 في المئة (7.2 مليون عام 2023).
وتؤشر هذه النتائج المتناقضة بين ما يفكر به يهود إسرائيل ويهود الولايات المتحدة الأمريكية، على الهوّة في الأولويات، فالالتفاف حول ترامب، ليس موقفا يهوديا بالمطلق، بل ليس حتى موقفا ثابتا لدى أصدقاء إسرائيل، بل هو موقف أقصى اليمين الإسرائيلي المتحالف مع رئيس شعبوي معروف بمواقفه المتطرفة، والعنصرية، والمثيرة للجدل، من جملة قضايا لا تتعلق فقط بإسرائيل، بل تشمل المهاجرين، وتموضع الولايات المتحدة في الصراعات العالمية، ومساهماتها في الأمن الأوروبي، وصولا طبعا إلى الحرّيات التي يظهر ترامب عدوا لها في نظر الدوائر الديمقراطية الأوسع في الولايات المتحدة، والعالم.
وموقف اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب على غزة، لم يتماه كذلك مع موقف نتنياهو وحكومته.
ففي شهر حزيران/يونيو الماضي أظهر استطلاع أجراه «مركز القدس للشؤون العامة» وهو مركز أبحاث إسرائيلي خاص يميني، أن ما يقرب من ثلث اليهود الأمريكيين يوافقون على الاتهامات بأن إسرائيل ارتكبت «إبادة جماعية» في قطاع غزة، فيما يدعم 60 في المئة منهم إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
أكثر من ذلك، يعتقد الكثيرون من الساسة الكبار في الولايات المتحدة، المحسوبين على معسكر أصدقاء إسرائيل القويّ، أن حكومة نتنياهو تضرّ بالمصالح الإسرائيلية فيما فعلته وتفعله. وهو ما دفع ببعض أكثرهم إخلاصا لإسرائيل، إلى إطلاق دعوات صريحة لإزاحة نتنياهو عن السلطة، كما فعل زعيم الغالبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، الذي تمنّى، في خطاب ألقاه في آذار/مارس الماضي قيام حكومة جديدة في إسرائيل.
لكن نتنياهو، الذي نجح في عكس صورته من منهزم مهدّد بالملاحقة القضائية في أي وقت، إلى «منتصر» تمكّن من إنزال ضربات موجعة بحق أعداء إسرائيل في «محور المقاومة» سواء في غزة أو لبنان، لديه أولويات أخرى غير إرضاء اليهود الأمريكيين وساستهم في قيادة الحزب الديمقراطي.
ولا تعني هذه الصورة أن اللوبي اليهودي المؤثّر في الولايات المتحدة الأمريكية مناهض لترامب. على العكس ربما، تستفيد «لجنة الشؤون العامة الأمريكية» (أيباك) من تبرّعات أصدقاء كبار لترامب من المليارديرات الجمهوريين، لتجمع الأموال وتنفقها في حملات عابرة للحزبين الجمهوري والديمقراطي، تستهدف بشكل رئيسي إزاحة الأعضاء التقدميين في الكونغرس الذين أدانوا إسرائيل في حربها على غزة، وفي الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي، كما انتقدوا التمويل العسكري الأمريكي لحروب نتنياهو.
وتتماهى «أيباك» مع ممولي حملة ترامب الانتخابية من كبار المتمولين في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي شهر آب/أغسطس الماضي، نشرت مجلة «فوربز» لائحة من26 من كبار الأثرياء (تقدر ثرواتهم مجتمعة بـ143 مليار دولار) جمعوا 162 مليون دولار لحملة ترامب الانتخابية.
ويدعم هؤلاء بشكل عام، السياسات المحافظة لليمين الأمريكي، واستراتيجيات تضع «أمريكا أولا» في أولويتها، ويرتبط بعضهم، مثل أنطونيو غراسيا، بعلاقات مع إيلون ماسك، وفق ما تقوله مجلّة «فوربز» التي يشير تقريرها كذلك إلى تحوّل بين بعض نخبة قطاع التكنولوجيا نحو السياسات اليمينية.
كما يشير إلى أن لجنة «أمريكا باك» التي شارك في تأسيسها إيلون ماسك، أصبحت أداة أساسية لجمع ما يقرب من 8 ملايين دولار لدعم ترامب.
لكن التباينات بين مواقف يهود الولايات المتحدة الأمريكية، وبين إسرائيل نتنياهو، بقدر ما تشكل مفارقة أكثر حضورا من قبل في هذه الانتخابات، تكشف أيضاً ما يحاول نتنياهو وحكومته الاستفادة منه إلى أقصى حدّ في هذا الاستحقاق.
وهو ما دأب على فعله خلال أكثر من عام، وكثّف منه خلال الأشهر القليلة منذ زيارته للكونغرس الأمريكي وخطابه «العسكري» أمام أعضائه.
فمنذ حقبة الرئيس الراحل جيمي كارتر في سبعينيات القرن الماضي، درجت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على تبني سياسة ـ داعمة بالمطلق لإسرائيل بالطبع ـ لكنها تبحث عن تسوية سياسية متواضعة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني ـ والصراع الإسرائيلي العربي استطرادا.
وكان لكل إدارة أمريكية درجة في تبنّي هذه السياسة، لكنها تحولت إلى ثابتة، ولم تنقضّ عليها إدارة الجمهوري رونالد ريغان، الذي على الرغم من تموضعه الكامل في اليمين المحافظ، لم يمنعه ذلك من أن يجري اتصالا غاضبا في أحد أيام بيروت الدامية عام 1982 مع رئيس حكومة الاحتلال مناحيم بيغن طالبا منه وقفا فوريا لإطلاق النار على العاصمة اللبنانية.
وفي عهد ريغان ونائبه جورج بوش، فتحت الولايات المتحدة الأمريكية قناة اتصال رسمية مع منظمة التحرير الفلسطينية. وكل ما تلا ذلك معروف، قبل أن يقفل ترامب مكتب المنظّمة في واشنطن.
لكن ترامب، قد يمثّل بالنسبة لنتنياهو فرصة لتغيير هذه السياسات، من دون أن يعني ذلك أن إدارة ديمقراطية ستكون أكثر جرأة في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين على الإطلاق.
على العكس، نجح نتنياهو في تطويع إدارة الديمقراطيين، كما يقال، وخصوصا مع اقتراب موعد الانتخابات، لخدمة أجندته السياسية الخاصة، وحروبه التوسّعية في المنطقة، ولهفته التي لم يخفها منذ سنوات لإقناع الولايات المتحدة الأمريكية بشنّ الحرب على إيران (أو توسيع الحرب السرية القائمة بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة منذ الثورة الإيرانية) ورفض الاتفاق النووي.
مع ذلك، فإن سجلّ ترامب تجاه الشرق الأوسط، المشوب بغموض في كثير من نواحيه، وجغرافياته وعلاقاته، يشجّع نتنياهو على الانتظار.
وسجلّه في فلسطين، عنوانه الظاهر الاتفاقات الإبراهيمية، التي يأمل اليمين الحاكم في إسرائيل أن تكون بابا لنسيان كل ما يتعلق بالدولة الفلسطينية، ونسف كل المسار الذي ساد منذ مطلع التسعينيات على الأقل، والقائم على إعطاء الفلسطينيين بعضا من حقهم في إقامة كيان مستقل.
طبعا كانت إدارات الديمقراطيين، والجمهوريين، قبل ذلك، قد منحت إسرائيل كل ما تريده في إضعاف قضية اللاجئين الفلسطينيين ـ وصولا إلى تصفيتها الماديّة اليوم مع حظر وكالة «الأونروا» ومحاولة تفكيكها – وإلغاء تقريبا لقضية السيادة على القدس المحتلة، من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، قبل أن يأتي ترامب وينقل السفارة عمليّا إلى القدس المحتلة.
ويضاف إلى ذلك، أن حرب الاستيطان شديدة الخطورة في الضفة الغربية المحتلة، والتي تجعل اليوم المستوطنين يمثّلون نحو ثلث سكان الضفة والقدس المحتلتين، لا يراها ترامب ولم يرها يوما قضية تستأهل تحركا عاجلا تجاهها، بل على العكس، دعمها أكثر من أسلافه، وباركها وزير خارجيته جورج بومبيو، من عين المكان الاستيطاني الاحتلالي، كما فعل تماما بمباركته احتلال إسرائيل «الأبدي» للجولان السوري، ومن عين المكان المستوطَن والمحتَلّ.
فالانقلاب الذي يسعى ائتلاف نتنياهو الحاكم، الذي يضم كبرى الأحزاب الفاشية الدينية والقومية في إسرائيل، لا يخفيه ولم يخفه يوما، قبل 7 أكتوبر وبعده، وعنوانه الأول تصفية القضية الفلسطينية، والتصفية السياسية، وإن أمكن الفعلية عبر التّهجير، للشعب الفلسطيني على كامل توزّعه الجغرافي، فضلا عن إزالة التهديد الإيراني، والتطبيع مع العرب.
وهذا الانقلاب الذي يحدثه نتنياهو من خلال حرب الإبادة في غزة، وسفك دماء اللبنانيين عبر حرب الجريمة ذاتها، هو السّائد عند الإسرائيليين.
وهو انقلاب أيضا في موقف الإسرائيليين، الذين نجحت آلة الدولة الاحتلالية في إقناع غالبيتهم بالخطر الوجودي، سواء من الفلسطينيين في فلسطين التاريخية كلّها بما فيها الداخل، أو خطر الشمال الآتي من «حزب الله» وإيران، والذي تبيّن أن المعادلة فيه غير متوازنة، والصورة غير دقيقة، وأن المؤسسة الرسمية الإسرائيلية التي دأبت خلال السنوات الأخيرة على التهويل من هذه الأخطار، قد تكون تعرف بشكل أفضل الحقائق.
وأكثر من ذلك، فإنّ ضوابط الحرب الإسرائيلية بقيادة هذا اليمين المتطرف، وبدعم وتأييد غالبية من الإسرائيليين، لا تكترث لأي رادع قانوني أو أخلاقي كما يشير إليه بحث للأكاديميتين الإسرائيليتين عيديت شفران غيتلمان وتومر هوستفسكي ـ برندس، نشر أخيرا، وتحت عنوان «مصلحة الدولة».
وانتظار نتنياهو، نتائج الانتخابات الأمريكية قبل أن يمضي في أي اتفاق، يأتي في سياق التقارير نفسها التي تتحدث عن طلب ترامب منه إنهاء حرب غزة قبل توليه منصبه في كانون الثاني/يناير من العام المقبل، في حال كان هو الفائز، وتأتي في السياق نفسه الذي ينتهز فيه نتنياهو كلّ مناسبة ليظهر ودّه الكبير لترامب وعلاقته الشخصية والعائلية معه.
ورهان نتنياهو هذا، قد يكون رهان اليمين الإسرائيلي المتطرّف على ما يظنّ أنّه معادله الأيديولوجي والسياسي في الولايات المتحدة الأمريكية. فإذا كانت كثير من الاتجاهات والمواقف والتحليلات تقول إن هذه الانتخابات قد تحدث فرقا كبيراً في العالم، فقد يكون من البديهي أن ينتظر نتنياهو.
أمّا هذا الانتظار، الذي عرقل جهود الوسطاء المستمرّة منذ الحرب تقريبا لوقفها ووقف حمّام الدم الذي ترتكبه إسرائيل من دون رادع بحقّ الفلسطينيين، واللبنانيين، فثمنه المزيد من الدّم في غزة التي يوشك معظم سكان شمالها على الموت، كما صرّحت بذلك 15 وكالة أممية الجمعة، أو لبنان الذي تُدمّر فيها القرى عن بكرة أبيها، وتقصف عاصمته، ويُهجّر فيه مليون ونصف المليون لبناني.

شاهد أيضاً